بوتين… أي فخ وقع فيه!

أنطوني جعجع

في احدى المقابلات الاذاعية أخيراً، لم أتوقع نشوب حرب بين روسيا والولايات المتحدة على خلفية الأزمة الأوكرانية، باعتبار أن حرباً كهذه تحتاج الى مجنون في كل من الكرملين والبيت الأبيض، لكن التطورات اللاحقة أثبتت هزالة هذا المنطق وأظهرت أن فلاديمير بوتين يحتاج الى فرض هيبته وأن جو بايدن يحتاج الى استعادة هيبته بعد الانسحاب من أفغانستان.

صحيح أن الحرب لم تقع في شكل مباشر بين الروس والأميركيين، لكنها وقعت عملياً بينهما عبر الجيش الأوكراني الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الحد من طموحات الدب الروسي الذي يحاول التمدد في أكثر من مكان مستغلاً فائض القوة من جهة، وانحسار النزعة القتالية لدى دول القارة العجوز وشعوبها من جهة أخرى.

وأكثر من ذلك، لا يختلف الكثير من الخبراء على أن الجيش الأوكراني واجه بجدارة الجيش الروسي بأسحلة وتقنيات ومهارات أميركية وغربية، خلافاً للجيش الأفغاني الذي انهار أمام “طالبان”، والجيش العراقي الذي انهار أمام “داعش” في الموصل بسرعة قياسية، وهو ما دفع موسكو الى اعتبار نفسها في مواجهة مباشرة مع مستشارين أميركيين وغربيين يعملون الى جانب الدفاعات الأوكرانية التي وجهت ضربات قاسية الى القوة الروسية المدرعة وقواها الجوية.

والواقع، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن أنه دخل أوكرانيا لتجريدها من سلاحها وسحبها من حضن الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، حوّلها في الواقع الى جارة عدوة أكثر اصراراً على الانضمام الى العالم الغربي، وأكثر قرباً من هيكليته العسكرية حتى لو لم تنضم اليها في شكل رسمي.

والواقع أيضاً، أن بوتين الذي يجهل مدى الكره الذي يكنه معظم سكان الدول السوفياتية السابقة للعراب الروسي، اعتقد أن تطويع أوكرانيا سيجر الى تطويع أوروبا والتمدد لاحقاً نحو دول البلطيق وعدد من الدول المجاورة، قبل أن يجد نفسه في عزلة خانقة لم يشهدها حتى أدولف هتلر في أوج قوته، وفي مواجهة شبه حتمية مع حلف الأطلسي، وتحديداً الأميركيين المنتشرين في البلطيق ودول أوروبا الشرقية، الأمر الذي أدخله قسراً في فم الذئب محاصراً بين خيارين: اما سحب قواته من أوكرانيا تلبية لأي اتفاق يحفظ ماء وجهه، واما الدخول في حرب عالمية متعددة الأسلحة لا يلقى فيها حليفاً واحداً لا في الشرق ولا في الغرب، باستثناء بيلاروسيا وكل من سوريا وايران و”حزب الله”.

حتى الصين التي تعاطفت مع بوتين في اليوم الأول من الحرب، عادت الى لغة التهدئة داعية صديقها الروسي الجديد الى حل الأزمة عبر المفاوضات، وذلك عندما أدركت أن المغامرة الروسية لم تمض كما خطط الاستراتيجيون الروس، وأن مسار المعركة لم يكن متماهياً مع الأجواء التي نقلها بوتين الى المسؤولين الصينيين على هامش مشاركته في افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين.

ولم تستبعد مصادر ديبلوماسية وعسكرية، أن تكون موسكو وبكين اتفقتا ضمناً على ضرورة تحجيم الهيمنة الأميركية على العالم، بحيث يسيطر الكرملين على أوروبا من البوابة الأوكرانية وتسيطر الصين على آسيا من البوابة التايوانية، وهو يشبه الى حد بعيد، ما حاول أن يفعله النازيون في ثلاثينيات القرن الماضي، وما حاول أن يفعله الشيوعيون بعده، وما حاول أن يفعله صدام حسين بعد تراجع الحرب الباردة، وما حاولت ايران أن تفعله في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة في ظل رئيس أميركي ضعيف هو باراك اوباما.

ويبدو أن بوتين وقع في الخطأ نفسه، معتقداً أنه يتعامل مع رئيس أميركي ضعيف هو جو بايدن، متناسياً أن أميركا التي انسحبت في شكل فوضوي من كابول، لن تنسحب أو تتساهل في أوروبا، ولن تتوانى عن أي شيء لتطويق أي مغامرة يمكن أن يلجأ اليها أعداء الولايات المتحدة لانتزاع بعض الأوراق الرابحة، وهذا ما يفسر أمرين: الحشد العسكري الأميركي في البلطيق والدول الحدودية مع روسيا وتحديداً في بولندا وألمانيا، وتحذير ايران من أي محاولة لاستغلال الهجوم الروسي على أوكرانيا، للقيام بأي مغامرات غير محسوبة على المستوى النووي.

وليس مستبعداً في رأي خبراء عسكريين أن تكون الصين قرأت الخريطة العالمية في شكل جيد، فصرفت النظر عن أي محاولة للانقضاض على جزيرة تايوان، موضحين أن بكين أدركت أن العالم موحد خلف الولايات المتحدة وأنها غير مستعدة لاستنساخ فلاديمير بوتين آخر في منطقة تعاني فيها مشاكل حدودية مع الهند والفيليبين واليابان، اضافة الى أسطول أميركي يجول بحر الصين وبحاراً أخرى بالتنسيق مع السفن الفرنسية والأسترالية.

وليس المقصود هنا، تكريس أميركا قوة لا تقهر، بل تكريس النظرية التي تفيد أن أحداً غير قادر الآن على تأسيس “اتحاد سوفياتي” جديد في مواجهة العملاق الأميركي سواء في البر أو في البحر أو في الجو أو في الحروب الاقتصادية والتكنولوجية.

وما يعزز هذه النظرية، العزلة التي واجهها بوتين في حربه هذه اضافة الى الحرب الاقتصادية التي تهدد بتحويل روسيا العظمى الى كيان مخنوق لا يختلف كثيراً عن كل من فنزويلا وايران وسوريا.

ولا تبدو ايران بدورها، في حالة مريحة تسمح لها باستغلال الانشغال الأميركي بالأزمة الأوكرانية لانتزاع تنازلات في فيينا أو تسريع برنامجها النووي، وهذا ما يفسر النشاط الجوي الاسرائيلي الذي تزامن مع تحذير أميركي للمسؤولين الايرانيين الذي نظروا الى التحرك الروسي على أنه خطوة نحو توازن رعب جديد يمنع الولايات المتحدة من أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في معظم الملفات العالمية الساخنة.

والواضح أن ثمة حقيقة لم يدركها بوتين، وتتمثل في أن أميركا لا تبتلع هزائمها ونكساتها بسهولة، وتعمل دائماً للحفاظ على هيبتها ومعنويات جنودها وناسها، وهو ما حدث على سبيل المثال لا الحصر، بعد تفجير مقر المارينز في بيروت في العام ١٩٨٣، عندما أمر الرئيس رونالد ريغان باجتياح دولة غرينادا بحجة القضاء على مطار عسكري يبنيه خبراء ومهندسون كوبيون، محاولاً بذلك تحويل الأنظار عن كارثة بيروت التي أودت بـ ٢٤٤ جندياً أميركياً، ونقلها الى مكان آخر تكون فيها أميركا دولة منتصرة لا جريحة أو ذليلة.

وبينما راح المراقبون يسألون أين يمكن أن ترد أميركا، لتعويض خيبتها في كابول، وما هو حجم هذا الرد، ومن يمكن أن يكون هدفه، وبينما كان البعض يتوقع هذا الرد في الخليج وتحديداً في اليمن، وضد قادة “داعش” في أي مكان يتواجدون فيه، أدخل بوتين رأسه في “كابول الأوروبية”، ووضع عظمة بلاده وجيشه وترسانته العسكرية على المحك، وسلم نفسه للرئيس جو بايدن والمحور الغربي الذي استفاق فجأة، في شكل أخذه الى خيارين: اما التنازل في الموضوع الأوكراني تحاشياً لتجربة أفغانستان، واما الذهاب الى حرب عالمية يفتح فيها كل ما يملك من أسلحة وتقنيات، وهما خياران أحلاهما مر أو على الأقل أحلاهما قد يكون الدمار الشامل .

وما لم يفهمه بوتين، أن العالم الغربي الذي فقد نحو ٥٥ مليون قتيل خلال الحرب العالمية الثانية، لن يسمح باستنساخ هتلر جديد يجره الى حرب تقضي على ما تبقى من العالم الحر، في وقت تنفلش الأصوليات في كل زاوية من زوايا الكون، وأنه لن يكون مستعداً في عهد بوتين أن يستنسخ تلك الحرب الباردة التي عاشها مع الاتحاد السوفياتي على مدى عقود طويلة، ولو اضطر الى مد جسر من الأسلحة النوعية الى كل خندق في أوكرانيا.

ولم تنس الدول الأوروبية في كواليسها، سلسلة الاستفزازات التي كانت تمارسها الطائرات والسفن الحربية الروسية في الأجواء الأوروبية وبحارها، ولم تنس للكرملين ما فعله لانقاذ الرئيس السوري بشار الاسد، وما يفعله للحد من الحصار الذي تعانيه كل من ايران وفنزويلا، وما يمارسه ضد المعارضين الروس سواء قتلاً أو نفياً أو سجناً.

وفي اختصار، ومهما كانت نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية، فثمة حقيقة تكرّست ولا تقبل الجدل، وهي أن أميركا لن تسمح لروسيا بالتحول الى دولة عظمى قتالية، ولن تتقبل في أوروبا ما عانته في أفغانستان، ولن تحاول أن تخرج من هذه الأزمة من دون نصر ثمين يبقيها الدولة العظمى الوحيدة في العالم، ويحوّل أوكرانيا الى مستنقع جديد يقاتل فيه “مجاهدون مسيحيون” هذه المرة بأسلحة غربية حملها من قبل “مجاهدون مسلمون” في جبال أفغانستان.

وفي اختصار أيضاً، أثبتت الحروب التي أعقبت حرب فيتنام أن أميركا لم تعد تذهب الى الجبهات وحدها تماماً كما حدث في العراق والخليج والصومال وأفغانستان، في حين لا ينطبق هذا الأمر على كل من الصين وروسيا وايران وتركيا في أي حرب قد تخوضها سواء لاستعادة امبراطوريات ضائعة، أو وراثة هيمنة عاصية.

شارك المقال