قدر روسيا… والعالم

علي نون
علي نون

أرادها حرباً صغيرة في مشروعه الكبير فكبرت الحرب وصغر المشروع. فلاديمير بوتين ارتكب الخطأ المنتظر وبدأ يحصد النتيجة. فعل ما يفعله الطغاة عادة: لم يرَ سوى نفسه، ولم يسمع سوى صوته، ولم يستوعب أبداً أن التاريخ يسير مع الزمن الى الأمام ولا يعود الى الخلف، وتكراره وهم يركب رؤوس الطغاة والمستبدين وخصوصاً منهم الذين يرون في الماضي الفاشل مشروعاً احيائياً ناجحاً للحاضر والمستقبل!.

وحدهم هم الاستبداديون الذين يفترضون في ذواتهم قدرة على خلق معادلات حسابية جديدة تلغي القواعد الثابتة والعلمية، ويفترضون أن البداية الغلط توصل الى نهاية صحيحة، وأن الذات المدرعة بالامتلاء النرجسي كفيلة بتطويع التاريخ وتغيير الجغرافيا و”إزالة” شعوب وأوطان بجرة قرار ذاتي مثلما كان الحال أيام زمان، أيام الحدود غير الواضحة، والكيانات الوطنية غير المكتملة وحيث أن مفهوم السيادة كان تعبيراً عن هلوسة بلاغية ليس أكثر، وحيث الغزو كان عادة مشاعة وأسلوب حياة، والابادات البشرية طقساً مألوفاً ومتبادلاً حيث أمكن، وحيث وسائل التواصل كانت على الخيل والحمام الزاجل، وكشافات الضوء كانت تعتمد على اكتمال القمر وضوئه الفضي!.

اعتمد أسلوب الترويع والصدم مع أعدائه ومشاريع أعدائه. وتبنى سياسة الأرض المحروقة في معاركه التي خاضها “داخل” المدار الروسي اذا صحّ التعبير وبالقرب منه، لكنه يبدو في أول “حرب” يخوضها وكأنه مصدوم من رد الفعل ومرتاع من تبعات الهجوم المضاد عليه، ويكاد أن لا يصدق حقيقة أن الدنيا أوسع من حيطان الكرملين، وأوروبا أعقد “بقليل” من الشيشان، وأن التلويح من البداية بسلاح النهاية لا يدلّ سوى على رعب ذاتي بقدر ما يحمل من دلالات ضعف الحجة والمنطق وانتكاس خطة الصدم والترويع والبلطجة المفضوحة.

تجربته “الناجحة” في الشيشان كانت أول أسباب فشله خارجها. ثم تكرار الأمر في جورجيا جعله مقتنعاً بطريقه. ثم بعدها راح إلى ملامسة هواية اللعب بالخرائط في القرم من دون أن يحسب حساب الاستطرادات في عالم ما بعد الحرب الباردة بل تشجع وذهب الى ما قبل الحرب العالمية الثانية واستعار من هتلر مبدأه الأثير: جعل العنصر الروسي شماعة السعي الاحيائي مثلما جعل زعيم الرايخ الثالث العنصر الآري شمّاعة يعلق عليها كل أحقاده القومية وأمراضه وثاراته وطموحاته المدمرّة.

ثم جاء الى سوريا ونسي التفويض بذلك من قبل الأميركي والاسرائيلي. راح يستعرض بفجور قوته وأسلحته، ويجرّب هذه على الحامي بدماء السوريين وأرواحهم وأرزاقهم ثم يعربد بإعلان “نجاح” تجارب كل الأسلحة الحديثة في ترسانة بلاده. لم يُرِد لأحد أن يشير الى أنه أخذ الاذن المسبق بالمجيء الى سوريا بل تصرف وكأنه ينفذ وظيفة نيابة عن كل العالم وبديلاً عن نكوص ذلك العالم عن التورط في حرب اأهلية مريرة وضد ثورة على نظام ارهابي اتهم غيره بما فيه.

امتلأ بذاته وفاض خارجها. وصارت شخصيته أهم من أدائه الوظيفي، بل صارت الصورة عنده أبدى من قراراته وأولى. وعندما صار مهجوساً بالأنا وعظمتها وتماهيها مع عظمة بلاده التاريخية، أصيب بالنزق والرعونة وبزّ أقرانه وملهميه بذلك ولم ينتبه مثلاً الى أن ازدراء كبار “موظفيه” أمام الملأ لم يزد شيئاً في هيبته لكنه قلل من هيبة سلطته وصورة بلاده. حتى صدام حسين لم يذهب الى تلك الحدود وحافظ على الشكل لأنه جزء مكين من عدّة السلطة والتمكن: لم يجلس مع كوادره وأعمدة سلطته ونظامه جلسة أستاذ أمام تلاميذه مثلما فعل ويفعل بوتين. ولم يكسر شخصية أخطر مسؤول عنده مثلما فعل بوتين مع رئيس جهاز استخباراته. كان صدام يحضر الى الجلسة القيادية بعد اكتمال حضور المطلوب حضورهم، فيقف هؤلاء الى أن يجلس هو ثم يدعوهم الى الجلوس… على الطاولة ذاتها وهو عند رأسها.

وحتى في مجزرة قاعة الخلد التأسيسية في تموز ١٩٧٩، جلس صدام في الصف الأمامي الى جانب رفاقه، ثم صعد الى المنبر وعندما اكتمل بناء المقصلة عاد ونزل الى الصف الأول بالقرب من الرفاق الناجين من شفرة تلك المقصلة!.

احتاط لأهمية الشكل والصورة في بناء هيبة السلطة ومشروع الامساك بها وافترض عن حق أن اهانة أي مسؤول علناً تضعف النظام وصاحبه ولا تقويه. لكن القيصر غير المكتمل في الكرملين يتصرف وكأنه أهم من بلده، و”صورته” أهم من مؤسسات الدولة ورموزها السيادية، وهيبته الشخصية تفوق في أهميتها هيبة الدولة المطلوب إعادة إحياء عزّها الامبراطوري. وهذه تفاصيل لم ينتبه صاحبها الى أنها تعطي صورة شاملة عنه وعن أسلوبه، وتؤخذ على محمل الجد عند صناع القرار في الخارج، وتُعتمد بثقل ورزانة عند دراسة خطواته وتوقع التالي منها.

وليس غريباً في ضوء ذلك، وصول الكثيرين الى قناعة بأن زعيم روسيا بلطجي، وهذا في العادة لا يرتدع سوى بالقوة الموازية أو بمجرد التلويح بها، وأن هوسه بشخصه يعني أنه غير مستعد للذهاب بعيداً في تحدٍّ قد يدمرها وينهيها، وأنه لذلك يُكثر الضجيج التهديدي لكنه لا يحتمل الضجيج الموازي له، وهو في لحظة المواجهة الفعلية مستعد للتنازل وليس للتصعيد، وللتسوية وليس لمواصلة الصدام.

قبل شروعه بحربه على أوكرانيا ملأ الدنيا زعيقاً تهويلها غير مألوف وهدد من يحاول التدخل فيها بمواجهة “عواقب ليست مسبوقة” وبالغ في مسرحة غضبه وإظهار نفاذ صبره بجرعة فظاظة وقلة أخلاق إزاء ضيوفه الأجانب… وافترض أن ذلك سيردع الغرب عن التدخل أو سيضيف الى الأسباب الكبرى التي تمنعه عن ذلك التدخل، سبباً إضافياً وجيهاً وهو عدم الرغبة بإغضابه أكثر، بل بضرورة عدم استفزازه طالما أنه يحمل السلاح النووي واصبعه على زرّ التحكم به.

ثم افترض أن حشد قواته سيكفي لعدم استخدامها وأن القيادة “النازية” في كييف ستركع وتستسلم، لكن ما حصل كان العكس تماماً: لا كييف ارتعبت وانهارت ولا أوروبا استكانت وسكتت ولا أميركا تراخت وهربت من التحدي، وخاب أمل الباغي من بداية القصة، لكن العالم برمته دخل في تجربة لا يقدر أحد الآن، أن يحدد كيفية وموعد الخروج منها.

… وأي قدر لهذه الروسيا العظيمة وشعبها المبدع والخلاق: يتحكم بها مشعوذ إسمه راسبوتين في أواخر حكم القياصرة. ثم تفرز ثورة البلاشفة مجرماً استثنائياً اسمه ستالين ثم يعقبه مختل اسمه خروتشوف ثم يليه صنم اسمه بريجنيف، ثم يدور الزمن على انهيار يقوده مهرج اسمه يلتسين، ثم يليه مجنون عظمة اسمه بوتين… المرحلة “الطبيعية” اليتيمة التي قادها عاقل اسمه غورباتشيف انتهت بانهيار النظام وتفتت الامبراطورية التي يحاول اليوم البلطجي لملمة زجاجها المنثور فلا يترك لوح زجاج الا ويصطدم به!

شارك المقال