المصالح في هزيمة روسيا وبوتين

أحمد عدنان
أحمد عدنان

في خضم الحرب العالمية الثانية، تعاطف أغلب المصريين مع أدولف هتلر وألمانيا النازية، وكان موقفهم مفهوماً كون مصر تحت الانتداب البريطاني، فضلاً عن العلاقة الحرجة بين العرش والسفارة البريطانية التي كانت حادثة قصر عابدين 1942 مثالاً لذروة تأزمها.

لكن في المقابل، كانت هناك أصوات مؤثرة على الرغم من سباحتها ضد التيار، وعلى رأسها زعيم حزب “الوفد” مصطفى باشا النحاس، والأديب المرموق عباس محمود العقاد الذي ألف كتاباً ساخناً في ذروة انتصارات النازية “هتلر في الميزان”.

رأى مصطفى النحاس أن المسيرات التي تهتف في شوارع القاهرة “إلى الأمام يا رومل” إغاظة للإنجليز لا أكثر، وكان واضحاً عنده أن الألمان بالنسبة الى مصر محتلون مثل الإنجليز، ولن يأتي محتل ليزيح محتلاً آخر ويغادر معه، إضافة إلى أن قيم الديموقراطية والليبرالية تمنح لندن مزية تفضيلية، لكن هذه المزية لا تعني التفريط في استقلال مصر ونزوح المحتل.

وقدم العقاد رؤية مكتملة للموقف أثبتت الأيام بصيرتها ودقتها وعمقها وصحتها، منها:

– ولكنَّ النازيين أغاروا على بولونيا ومن ورائها أمم شتى تنتظر وتحسب أنها تسلم بالانتظار، وتبتعد وتحسب أنها تأمن بالابتعاد، فلم تنقضِ أسابيع حتى فهمت كل واحدة منها أنها أخطأت في حقِّ نفسها وأخطأت في حق غيرها، ولم تُفِدْ أحداً غير المعتدي عليها وعلى غيرها. فلا هي سلكت طريق المروءة، ولا هي سلكت طريق السلامة، وبئست السياسة التي تحيد عن هذين الطريقين لتمهد بيديها طريق المعتدين عليها.

– انتهى في السياسة الدولية عهد «مصلحتي» وعهد شؤوني وكفى! وأصبحت المصلحة الآن في التوحيد بين المصلحة الوطنية والمصلحة العالمية.

– ففي أحد المعسكرين نموذج صغير للعالم البائد، عالم العصبيات والعداوات والمشاكسات، وقوامه جماعة النازيين. وفي المعسكر المقابل له نموذج صغير للعالم المقبل، عالم التعاون على تحقيق المشاركة الدنيوية من غير تعطيل للسيادة القومية، وقوامه جماعة الحلفاء. وبين هذين النموذجين، أو هذين المعسكرين، سر الحرب العظيم الذي تندمج فيه الأسرار كافة.

– إن القوة العسكرية ليست هي مقياس الحضارة، فأتيلا وهولاكو مثلاً كان لهما جيش يعتبر من أقوى جيوش العالم، إنما مقياس الرقي والتقدم الانساني هو الانتاج العقلي ونبوغ العلماء والمفكرين والفنانين والمثقفين. فلنرجع إلى حالة البلاد التي أخذت بالنظام الديكتاتوري لنرى حالتها من ناحية الإنتاج العقلي، أقول مع الأسف إن كل أمة أخذت بهذا النظام ضاعت فيها الحرية الفردية، فركد فيها الإنتاج العقلي ركوداً تامّاً.

– إن النازيين يتقربون إلى الشرقيين بحجة غريبة، فيذكرون لهم الشكايات التي يشكونها من الدول الديموقراطية، والقضايا الوطنية المعلَّقة بين تلك الدول وبعض الشعوب العربية والشرقية، ومهما يكن من شأن هذه القضايا والشكايات فممَّا لا نزاع فيه أن المرء لا يحمد جراثيم السل لأنه يشكو الزكام، ولا يرضى بصولة النازيين وطريقتهم في حكم البولونيين والتشيكيين والنمسويين والهولنديين وأبناء الشمال؛ لأنه يلقى ما يسوءه من الدول الديموقراطية، فإن الفرق لبعيد جدّاً بين من ينكر الحرية أصلاً وفصلاً وبين من يعترف بها ويماطلك فيها، أو يخالفك في مقدارها.

ـ يقول هتلر للعالم: أعطوني حقوق الفرد في الدولة ألغيها، وأعطوني الدول الصغيرة أدوسها، والدول الكبيرة أمزقها… وقواعد الطمأنينة في الأرض كلها أزعزعها. أعطوني كل ما تعزُّون ولا تسألوني ماذا تأخذون! لأنني آخذ ولا أعطي، آخذ الحرية التي عندكم ولا أعطي القوة التي عندي، أعطوني الحرمات والحقوق لأن ألمانيا لا تعيش في الدنيا وللدنيا حرمات وحقوق.

– ولهذا نقول: إن قضية العالم هي انهزام ألمانيا وانتصار الدول الديموقراطية، فقضية الإنسان اليوم هي أن تنهزم ألمانيا الهتلرية الهزيمة المبرمة التي لا قيام بعدها؛ لأن انتصارها هو انتصار لمطالبها التي تبغيها، ومبادئها التي تدين بها، ومطالبها الصريحة التي لا تكتمها وهي استغلال الشعوب الأخرى وابتزازها، ومبادئها الصريحة التي تبشر بها هي سيادة القوة بينها وبين الدول، وسيادة القوة بين الحكومة والرعية.

– الفرق عظيم جدّاً بين منشأ الحادثة وبين النتائج التي تؤدي إليها، ومثال ذلك قريب إلينا من الحرب العظمى (يقصد الحرب العالمية الاولى). فبلدة سيراجيفو بعيدة كل البعد من الولايات المتحدة، بعيدة كل البعد من اليابان، ولكنَّ حادثاً واحداً وقع فيها كان كافياً لأن يزج بكلتا الدولتين في حرب يظهر لأول وهلة أنه ليس بينها وبينهما شأن كبير، أما نحن فقد وصلت إلينا فقلبت تاريخنا وغيَّرت نظام الحكم عندنا وأنشأت لنا تاريخاً آخر غير ما كان يسير إليه مجرى الحوادث لو لم تقع هذه المأساة في سيراجيفو، وهذا مثل بسيط يمكن أن يتكرر في كل حادث.

وما كتبه العقاد يغني عن كلام كثير، فيكفي وضع اسم بوتين مكان هتلر واسم روسيا مكان ألمانيا ووضع اسم أوكرانيا مكان بولونيا، ليصبح الحديث عن الساعة الراهنة.

إن الاستماع إلى تصريحات بوتين الأخيرة يثير الفزع والذعر، فالرجل تحدث عن أوكرانيا كما تحدث صدام حسين عن الكويت، وقد أكد – بلا قصد – صواب الأوكران في طلبهم الانضمام إلى الناتو، وتناسى بوتين – ومعه اليساري الأميركي بيرني ساندرز – أن احتلال روسيا للقرم، جعل الأوكران يرون في الانضمام للناتو خلاصاً وطنياً ووجودياً، فضلاً عما أكده الرئيس الروسي – مؤخراً – بأنه ينظر لأوكرانيا كدولة مصطنعة.

ولعل الصمود الأوكراني المذهل، فاقم جراح بوتين من بداية سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ يبدو أنه وأمثاله عاجزون عن استيعاب الانهيار السوفياتي كسقوط نموذج بدلاً من سقوط قومية، ليكون الحل الأسهل هو تفسير الأحداث من منظور التآمر الكوني المتجدد، فحق جورجيا في التقارب مع أوروبا مؤامرة، سقوط حلفاء روسيا بالانتخابات في غير جمهورية سوفياتية سابقة مؤامرة، وحق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها أو تقرير مصيرها مؤامرة، وصمود كييف مؤامرة، فليس من صفعة للمستكبر أقسى من أن يقال له انه مرفوض ومكروه، والخطر الذي يهدده حقاً هو أن يقال له ذلك في عقر داره بعد جواره.

والحق أن الصمود الأوكراني وجه إهانة عظيمة إلى أوهام بوتين وغطرسته حتى لو أسقط كييف، إذ اضطر إلى تفعيل منظومته النووية، وطلب معونة بيلاروسيا، ولم يبق إلا أن يستعين بمرتزقة الممانعة ليحقق نصره على “الكيان المصطنع”، والأطرف من كل ذلك تهديده لفنلندا والسويد برد فعل عسكري حال انضمتا إلى الناتو، وهو يعلم جيداً، أنه لن يفعل شيئاً إذا امتدت مظلة الناتو إلى هاتين الدولتين، وهذا يعزز قطعاً مكانة الناتو سياسياً وعسكريا ًكحلف دفاعي فعال.

يتبلور أمام الشرق الأوسط في هذه الظروف مسارين محتملين:

– الأول، أن يسلم العالم بانتصار بوتين في غزوه لأوكرانيا، ومعنى ذلك: أن سياسات بوتين العدوانية خارجياً والتعسفية داخلياً ستصبح مثار اقتداء متزايد لبعض دول العالم. وأن الحرب التي بدأت بروسيا وأوكرانيا ستمتد إلى الصين وتايوان، ولن تتوقف حتى تصل – بشكل أو بآخر – بصورة مريعة إلى الشرق الأوسط، وتكفي ملاحظة احتفالات أوباش الممانعة لتصور المشهد المقبل.

– الثاني، أن يتحد الغرب على استنزاف بوتين وروسيا في أوكرانيا وفي غيرها، وانعكاس ذلك أفضل على الشرق الأوسط، إذ من المفترض أن يمتد الاستنزاف إلى حلفاء الروس هنا، وعلى رأسهم إيران وأدواتها وميليشياتها، ولعل في ذلك خلاص للعرب لو اتخذوا الخيار الصحيح. وما يعزز هذا الاحتمال نجاح بوتين – بلا قصد أيضاً – في توحيد أوروبا والولايات المتحدة على الرغم من كل الخلافات.

والملفت حقاً في الأزمة الراهنة، هو الموقف الصيني الموزون حتى الساعة، ما يرجح في حال التسوية أن تكون بكين طرفاً رابحاً من مغامرة بوتين على حسابه، ما لم تتورط عسكرياً ضد تايوان وما لم تنجرف سياسياً إلى مواقف متطرفة ضد أورويا وواشنطن.

يعلمنا التاريخ الاقرب أن لا جدوى من التحالف مع بوتين ولا حسنة، إذ شاهدناه يذل حليفه بشار الأسد في قاعدة حميميم، ويسمح لاسرائيل بقصف ميليشيات حليفته إيران في سوريا حين تقتضي الحاجة، فأي رئيس هذا الذي خصمه مكلوم وحليفه مذلول؟ أما التاريخ القريب فيعلمنا أكثر، إعدام زعيم المجر إمري ناغ لأنه حاول إصلاح الحزب الشيوعي، واضطهاد رئيس تشيكوسلوفاكيا ألكسندر دوبتشيك لأنه حاول تطبيق “اشتراكية أكثر إنسانية”، فأي قومية تلك التي ترى مجدها في استعباد غيرها؟ والأسوأ من هذا الرئيس ومن هذه الدولة، هم أولئك الذين يصفقون للمجرم ويبررون للجريمة.

شارك المقال