"حرب تموز" فوق ثلوج أوكرانيا!

كاتب

في اختصار... لا يستطيع الرئيس فلاديمير بوتين أن يخسر حربه في أوكرانيا حتى لو اضطر الى فتح كل جبهاته على أي خط تماس محتمل سواء في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط...
فما كان قبل أيام حرباً خاطفة وسريعة وحاسمة، ومحدودة في المكان والزمان، تحول فجأة الى حرب عالمية غير مباشرة، ووضع العملاق الروسي في زاوية صعبة يتلقى فيها ضغوطاً لم يتلقاها في الحرب الأفغانية، اضافة الى وضع حلفائه وأعدائه معاً في أوضاع لا تترك لهم خيارات وافرة، فاما يشاركون في الحرب، وهذا غير وارد حتى الآن، واما يتفرجون في انتظار النتائج في ايجابياتها وسلبياتها، واما يستغلون أي تقهقر روسي لتسجيل بعض المكاسب أو ركوب بعض الموجات الرابحة أو الدخول في تحالفات أو تفاهمات أو تسويات جديدة.
ولا يختلف الكثير من الخبراء العسكريين على أن صمود الأوكرانيين حتى الآن شيئ وقدرتهم على النصر شيئ آخر، وأن التعثر الروسي شيئ والهزيمة شيئ آخر، مؤكدين أن الحرب بلغت مرحلة لا يحتمل أي طرف فيها أي حرب استنزاف لا تملك فيها كييف ما يمنحها ترف الصبر، ولا تملك موسكو ما يمنحها ترف الوقت.
ويقول هؤلاء الخبراء، إن بوتين لن يجد أمامه الا الاكتفاء بأوكرانيا اذا أراد فعلاً عدم الاصطدام مع الأميركيين ودول حلف الأطلسي، وأن يلجم آلته العسكرية في شكل لا يمتد بها الى حقول ألغام أخرى، مشيرين الى أن أي خطوة خارج أوكرانيا ستعني المواجهة مع جيوش أكثر تدريباً وأحدث تسليحاً وأغنى مادياً، وقد تعني أيضاً اللجوء الى حرب نووية تحت عنوان "علي وعلى أعدائي"...
وهنا لا بد من السؤال: هل يقر بوتين بأنه أخطأ في حساباته أم يصر على أن ما فعله هو الخيار الأكثر إلحاحاً بالنسبة الى أمن الاتحاد الروسي الذي وجد نفسه محاطاً بقواعد عسكرية أطلسية مزودة بأسلحة نووية؟
ليس في الأفق أي جواب حاسم، لكن الواضح، أن بوتين أخذ العملاق الثاني، أي الاتحاد الروسي، الى مكان يوفر على العملاق الأميركي تكبد خسائر مباشرة، ويعيد اليه القدرة على ضم القارة الأوروبية الى حظيرته بعد قطيعة أنتجها الرئيس السابق دونالد ترامب، وربما خوض حرب لا يفقد فيها جندياً واحداً، ويقلق العملاق الصيني الذي يجد نفسه عالقاً بين جار محاصر ومتعثر لا يملك أي حجة منطقية لنصرته، وفي موقع يحذره بالتالي من الخوض في أي مغامرات غير مدروسة سواء في تايوان أو المناطق الحدودية مع جيرانه أو في بحر الصين، في وقت تمكنت الولايات المتحدة من تشكيل محور عسكري دولي يتخطى بأشواط المحور الذي تشكل في مواجهة ادولف هتلر في الحرب العالمية الثانية.
لكن ما ينطبق على الصين، ومعها الى حد ما كوريا الشمالية، لا ينطبق على ايران التي تجد في انتصار روسيا انتصاراً معنوياً، يساعدها على الاحتماء به في مواجهة الضغوط الأميركية، وانكساراً عسكرياً قد تجد فيه فرصة لاستعادة المبادرة في سوريا واحكام سيطرتها على الأرض وعلى النظام من دون شراكة مع أحد.
ونقل عن مسؤول ايراني، أن طهران تنظر الى الروس كما تنظر الى اسرائيل، لكنها تضبط مشاعرها لسببين: استمرار الحاجة الى وجود عسكري يعتد به في مواجهة الولايات المتحدة وتركيا والانفصاليين الأكراد، وانعدام القدرة العسكرية على مواجهة الترسانة الروسية الضخمة.
ولا يخفى على الكثير من المراقبين مدى النقمة المكبوتة التي يحملها "حزب الله" والحرس الثوري من الفوقية التي يمارسها الجنود الروس ضد عناصرهم في سوريا، ومن انطباعات تفيد أن الاستخبارات الروسية هي التي تزود الطائرات الحربية الاسرائيلية بمعلومات عن قوافل ومخازن الاسلحة التابعة لـ "حزب الله"، وهذا ما يفسر الموقف الاسرائيلي المتحفظ حيال الهجوم الروسي، وما يثير حفيظة الأميركيين الذين كانوا يتوقعون من تل أبيب موقفاً أكثر تماهياً مع المعسكر الغربي.
وتكشف مصادر ديبلوماسية مطلعة أن رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتالي بينيت نقل الى بوتين هذه المخاوف، محذراً من أن أي نكسة روسية في أوكرانيا ستكون بمثابة نكسة لاسرائيل في صراعها مع ايران و"حزب الله". وأضافت المصادر: "ان بينيت ربما نصح الرئيس الروسي بالتوصل الى اتفاق وقف اطلاق النار بأي ثمن، كي لا يواجه مع المقاومة الأوكرانية ما واجهه الجيش الاسرائيلي خلال زحف المدرعات في حرب تموز".
وربما هذا الانطباع هو الذي حمل الكرملين على ربط أي اتفاق نووي بين ايران والولايات المتحدة، برفع العقوبات التي فرضت على روسيا، في محاولة من الرئيس بوتين للعب ما يملك من أوراق ضغط وافهام العالم الغربي أن الكرة الأرضية ملعب يتسع للجميع.
وبعيداً من ايران، لا يبدو الأمر أفضل حالاً في جورجيا التي لم تنس الهجوم الروسي الخاطف الذي انتزع منها منطقتي أبخازيا واوسيتيا الجنوبية في العام ٢٠٠٨، ولا دولة الشيشان التي تحاول المعارضة فيها سحبها من القبضة الروسية واعادتها الى الحظيرة الاسلامية الأصولية، ولا دولة أذربيجان التي لم يرضها في السر التدخل الروسي الذي حرمها من استعادة اقليم ناغورني كاراباخ الأرميني كاملاً في الحرب الأخيرة.
أضف الى كل ذلك، أن ما فعله بوتين، جاء له بنتائج عكسية، وحوّل مبدأ الحياد في بعض الدول الى مبدأ هش ودفعها الى التموضع في بيئة عسكرية أميركية وغربية، كما هي الحال مع فنلندا والسويد اللتين طالبتا بالانضمام الى حلف الأطلسي، وكما هي الحال مع دول البلطيق وأوروبا الشرقية، فضلاً عن أرمينيا التي لم تغفر لروسيا الأورثوذكسية عدم نصرتها لا في مواجهة أذربيجان المسلمة ولا الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
من هنا، يمكن القول، ان بوتين يدرك أنه لا يستطيع الهزيمة في أوكرانيا في أي شكل من الأشكال، يساعده في ذلك امتناع حلف الأطلسي عن الاقتراب من نيرانه، ولا يستطيع أن يطلق العنان للأميركيين في أوروبا ومناطق واسعة في العالم، ولا يستطيع، أن يخوض أكثر من حرب واحدة في وقت واحد.
وأهم من كل ذلك، يدرك المحللون الروس أن رئيسهم ارتكب الخطأ الذي ارتكبه الرئيس صدام حسين عندما غزا الكويت ليجد نفسه محاصراً بكل مخالب العالم، وبات أمام واحد من خيارين، اما ينتصر عسكرياً في أوكرانيا ويخسر العالم وهذا احتمال وارد، واما ينهزم فيها ويخرج من الكرملين كما خرج القياصرة من قبل وهذا احتمال يقرره العسكر الروسي وحده.