نبوءة بسام جرار وانقلاب الوعي

زاهر أبو حمدة

يحدث أن نبوءة الشيخ بسام جرار، بتحرير فلسطين خلال هذا العام، قلبت حياة الفلسطينيين لا سيما بعد تحديده تواريخ معينة بكل ثقة. أحدهم انقطع عن العمل لمراقبة ما يجري في أوكرانيا لأنه مرتبط بمستقبل إسرائيل كما يقول جرار. وعرض شخص أخر بيته للبيع لأن رحلة عودته إلى البلاد اقتربت، فيما يفتش أحد المتفائلين عن باص ليستأجره أو يشتريه حتى يركب فيه مع عائلته للذهاب إلى وطنه المحرر. ويتحدث الجميع في المخيمات عن الشيخ جرار ويتابعون محاضراته على “يوتيوب” أو في صفحته على “فيسبوك”. ولأن أكثر الشعب الفلسطيني بفطرته مؤمن ومتدين ويربط الصبر وما يحصل معه بالقدر والاختبار الرباني، أصبحت نظريات حساب الجُمل والاعجاز العددي في القرآن، موضع بحث يصدقه متابعو جرار في إطار عاطفي عجيب.

وبعيداً من حدوث النبوءة أو فشلها، لا يمكن لتوقع أن يسيطر على التفاصيل اليومية وصيرورة الأحداث وربطها بما يجري حولنا. فعملية اسقاط النظريات على الأحداث فيها انقلاب وعي واضح، والتجربة تثبت النظرية وليس العكس. وهنا وجب معرفة أن الوعي مدخل للإدراك، وهذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم، بـ”الضمير الجمعي”، فهو المجموع الكلي للمعتقدات والعواطف بين أعضاء المجتمع، حيث تشكل نسقاً له طابع مميز. يكسب هذا الضمير العام واقعاً ملموساً، لأنه يتكون من المثاليات الاجتماعية التي تكوّنها نظمٌ دينية وأخلاقية واقتصادية. في المقابل، هناك مفهوم “أنوميا” ويعني اللامعيارية، وينتج عن فقدان القيم والمعايير الاجتماعية التي تفضي إلى التفكك الاجتماعي. وهنا يدخل الفرد والمجتمع في أزمة هوية. ويرى دوركهايم، أن في داخل كل فرد مكونات ومعطيات جمعية، تتمثل بالضمير الجمعي، وتتشكل من أنساق قيم وأفكار وعادات ورموز تعبّر عن شخصية الفرد، وتعبّر عن الجماعة التي ينتمي إليها. وهذا الضمير الجمعي هو النواة البانية للهوية الجمعية، وهي ذاتها نماذج التفكير والعمل. لذلك تفكر الجماعة وتشعر بشكل مختلف تماماً عن أفرادها، إذا كانوا منفردين، فالتجمع يؤدي إلى إنتاج وعي جمعي وهوية اجتماعية. وأساس فكرة جرار، هو اللعب على الضمير الجمعي للشعب الفلسطيني والمتضامنين معه. فلن تجد فلسطينياً لا يحلم بتحرير فلسطين وزوال الاحتلال، لكن جرار لا يعرف سلبيات ما يطرحه على الوعي الفلسطيني. فماذا لو لم تحرر فلسطين خلال هذا العام؟ هل سيشك الناس المريدون لجرار بشخصه أم بالدين أم بفكرة إمكانية التحرير؟ وماذا عن الاحباط الكبير الذي سيصيبهم؟ وربما تكون النتيجة باعتراف الغالبية أن إسرائيل أمر واقع لا يمكن مقاومتها. فالبعد النفسي أخطر ما يمكن تصوره في ما يؤكده الشيخ. يضاف إلى ذلك، أن المعايير المطروحة ليست علمية أو منطقية ويمكن اثبات ذلك بالأدلة حول أصل وأساس حساب الجُمل، وهل فعلاً هناك اعجاز عددي في كتاب الله؟

ووفقاً لذلك، لا بد من إعادة ذكر جملة من تساؤلات طرحها الباحث الراحل عبد الغني عماد، في كتابه “سوسيولوجية الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء” الصادر عن مركز “دراسات الوحدة العربية”، حول إشكالية العلاقة بين الدين والثقافة والهوية: هل تقوم على التنابذ والصدام، بحيث حين تحضر الثقافة يتوارى الدين والعكس؟ أم أن الدين حاضر في قلب الثقافة؟ هل الدين هو كل الثقافة؟ وهل الثقافة في جوهرها دين؟ هل الأسبقية للديني أم الثقافي؟ وهل الدين هو الأصل والثقافة هي الفرع؟ أم في البدء كانت الثقافة؟ اختلف الفلاسفة والعلماء في الإجابات عن هكذا أسئلة في أبعادها الاجتماعية. أما الأهم، فهو حين تكون ضعيفاً أو فقيراً، من السهل اقناعك بأن الغد أفضل لأنك بحاجة ماسة الى تغيير الواقع، وبالتالي ارضاء اللاوعي الحالم بينما الواقع يشير إلى أن تغييره يحتاج إلى عمل وخطة وليس انتظار الغد وأنت تتعاطى النرجيلة في مقهى لا يقدم سوى القهوة والشاي والكثير من الكلام والأحلام.

إن أحد أهم مشكلات الشعب الفلسطيني، أن الهوية الوطنية تعرضت لضربات قاصمة وحلت مكانها هويات فئوية كثيرة، وهذا عليه ألف دليل. وبالتالي أصبحت الثقافة في أدنى سلم القيم المجتمعية وحلت مكانها الخرافات والنبوءات وأحلام اليقظة.

شارك المقال