عون والاعلام: خطاب متوتر… وإخبارات غب الطلب

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

في ذاكرتي ذلك الحوار الذي أجريته مع الرئيس ميشال عون في بعبدا، بعيد إتفاق الطائف في العام 1989، وانطلاقة حرب الالغاء مع “القوات اللبنانية”، بعد خوضه ما سمّي “حرب التحرير”. كان الجنرال قد استمد قوة شعبية من شبان وشابات التحقوا بما يسمى “أنصار الجيش”، وكانوا من متظاهري قصر بعبدا حيث كان الجنرال يخاطبهم منادياً “يا شعب لبنان العظيم”، قبل أن يغير رأيه ويقول: “شو هالشعب الطز”. لخص لي عون آنذاك موقفه من إتفاق الطائف بالقول جازماً حاسماً: “اللي عمل الطائف ينقعو ويشرب ميتو”، وهذا الحوار تم نقله مباشرة عبر “تلفزيون لبنان”.

كان عون رئيساً للحكومة العسكرية، متوتراً غاضباً لا يهدأ على كرسيه، ويكاد يقفز عنه لولا اشارات مستشاره الاعلامي بضرورة الهدوء وخفض وتيرة الصوت وعدم “النطنطة”، مشيراً الى الكاميرا التلفزيونية، فيعود الجنرال الى التحكم بأعصابه لحظات قبل أن يأتي سؤال يستفزه فيرجع الى حالة الفوران السابقة.

لم اكن أستغرب على الاطلاق سلوك الرئيس مع الصحافيين عندما كان يستقبلهم في الرابية ولا عندما استقبلوه في المطار مرحبين به عند عودته الميمونة من باريس في العام 2005، ولاحقاً في تعامله غير المتوازن كما يعتقد البعض مع الصحافة التي كان يشتمها تارة ويحاسبها تارة أخرى بقوانينه لا بقوانين الدستور الذي يضمن حرية الرأي والتعبير.

عندما ترأس عون الحكومة العسكرية، تعامل مع الصحافيين وفق قاعدة أنا الناطق الرسمي وأنتم تنشرون وتوزعون. صحيح قد يكون كشف أموراً كثيرة، لكن عمل الصحافة يلزم الصحافيين البحث عن الحقيقة والإضاءة على المعلومات والظواهر الجديدة. هكذا كان الوضع في حربي التحرير والالغاء ومواجهة الجيش السوري لاحقاً وتجميع الناس حوله لحمايته قبيل هروبه من القصر الجمهوري، وترك جيشه عرضة لممارسات الاحتلال. في تلك الحقبة بدا عون انساناً فريداً مقاوماً، يناضل من أجل لبنان بالنسبة الى كثير من الاعلاميين، قبل أن تكشف مخططات التمسك بالكرسي والا خراب البلد، وهذا ما كشف لاحقاً عندما بدأ بتعاونه مع النظام السوري مبدياً استعداده لتنفيذ كل شيء إن قرر ايصاله الى رئاسة الجمهورية، فهو ضرب المناطق المسيحية لإضعاف “القوات اللبنانية”، وكثير من الاعلاميين في تلك الفترة كانوا مناهضين للوجود السوري وبالتالي كشفوا عن هوس الحالة العونية في تلك المرحلة.

بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري وعودة عون الى لبنان، لم ينتبه صحافيون الى أن هذه العودة جرت بإتفاق بين عون وبشار الاسد والرئيس إميل لحود، بمساعدة من كريم بقرادوني الذي كشف عن ذلك في كتابه “صدمة وصمود”، اذ شرح بالتفصيل كيف تمت الاتفاقات وكيف طلب ونفذ وكان هو هذا العراب. كان عون يرى أهمية الاعلام لأنه يقدم له القوة، فاهتم باذاعة “صوت الغد” وافتتح محطة الــ”او تي في”، واستقطب مجموعة كبيرة من الصحافيين اللبنانيين الذين أيدوه وكانوا يدافعون عن الحالة العونية الجديدة التي حملت شعار “التغيير والاصلاح”.

ولكن كل الأعمال الاستعراضية للحالة العونية كانت مغلفة بل وملفقة ومبنية على أكاذيب أسطورية للسيطرة وأخذ الحصص والتقاسم كما بقية القوى. وجاء اتفاق مار مخايل المعلوم المجهول ومن ثم ذهابه الى سوريا حيث لم ينطق ببنت شفة عن الأسرى اللبنانيين في السجون السورية.

ولم يكتف بذلك، بل كان يستخدم تعابير الشارع ويتهكم على الصحافيين ويحاول التعاطي معهم كأنهم جنود في لواء أو سرية عسكرية يقودها بنفسه، وهذا دليل على النرجسية العونية التي حاول من خلالها تطويع الجسم الاعلامي وادارته وفقاً لمفاهيمه وتعميم معلومات خاطئة يراد من خلالها التضليل وعدم كشف الحقيقة للناس. وكان الصحافيون يحرجونه أحياناً أمام الشاشات ويضيئون في تقاريرهم على تصرفاته وحركاته وهو أمر لم يعجب الكثيرين.

تصرفات عون التي سادت في تلك الفترة قبل إنتخابه رئيساً، يمكن وصفها بأنها أشبه بحرب، وساهمت في تسليط الضوء على أعمال التيار العوني وتصرفات عون من قبل الجسم الاعلامي، الذي لم ينج من دعاوى رفعها التيار ولم تلق الكثير من الاهتمام كون الجسم الاعلامي يمكن محاكمته في محكمة المطبوعات فقط.

هذا السلوك مارسه عون ليس مع الصحافيين وحسب، بل أيضاً مع سياسيين ومرشحين لرئاسة الحكومة، وكان ميالاً الى ترؤس اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع ليدير البلد ويبقي على الفراغ الحكومي، ويعطل المؤسسات، حتى وصل به الأمر الى القول لشعبه بوقاحة: “اذا لم يعجبكم هاجروا”. وحتى عندما سئل الى أين ذاهبون، أجاب: “الى جهنم”.

بقي الرئيس عون في حالة تنافر مع الجسم الصحافي، فكان يستهزأ به ولا يظهر له إحتراماً وظل الخلاف قائماً بين الطرفين، على الرغم من أن الاعلام رحب بــ “بي الكل” عند حصول التسوية وتقبله رئيسأ، وراهن على التغيير في سلوكه ونظرته بعدما عاد الى القصر، مع ما يستوجبه ذلك من التعامل مع الجسم الاعلامي بطريقة مختلفة طالما أنه أصبح رئيساً للدولة، وصارت قواعد العمل وفقاً لتراث قديم تتعامل به كل المؤسسات التي تحكم البلد مع الجسم الاعلامي لأن الدستور أجاز في بنوده حرية الكلمة والوصول الى المعلومات وهذا من قيم لبنان وتراثه في التعامل مع مسؤوليه، وهو ما ميز أداءه الاعلامي في العالم العربي. ولكن للأسف طوال هذه الفترة انتقل عون من الدعاوى في التعامل الى استخدام وسائل جديدة، إذ سخر قضاة وضباطاً غب الطلب من خلال الجرائم الالكترونية وفبركة المعلومات وانتظار الذين يكتبون أي “بوست” إعتراضي أو كلمة اعتراضية عن النظام والعهد للمطالبة باعتقالهم من دون الاستماع الى افادتهم، على الرغم من وجود ضباط متفانين يحترمون القيم والمفاهيم والمبادئ لكنهم ينفذون الأوامر لأنها أوامر ويظهرون تعاطفهم مع الذين يكتبون.

سعى العهد الى استخدام جهاز أمن الرئاسة باعتبار كتابات بعض الصحافيين تمس بالجمهورية. وبالتالي عمل عون على تقييد حرية التعبير عبر استدعاء ناشطين واعلاميين وكتاب، علماً أن الاعلاميين تصالحوا مع العهد وفتحوا صفحة جديدة بعدم التعرض لرئيس الجمهورية باعتبار هذا الموقع أعلى السلطات وليس التعرض لعون بما يملك هذا الشخص من تاريخ. هناك ادعاءات من قبل قضاة ينفذون طلب الرئاسة ومن يتحرك في ظلها، وهذا الأمر بات يعرف بأمن المعلوماتية الذي يبحث عن الصحافيين وليس عن سارقي أموال الدولة والمهربين وتجار المخدرات والقتلة، وبدأ يحاصر من يكتب ومن يعترض باللسان.

وما حدث أخيراً مع ناشر ورئيس تحرير موقع “لبنان الكبير” الزميل محمد نمر يدل على أن عون وفريقه لا يزالان يخافان المواجهة مع الاعلام الذي يفضح الأكاذيب والتضليل، والمشكلة لا تصيب صحافياً أو جريدة أو مؤسسة فحسب، بل هي مشكلة مع كل الاعلام وكل الاعلاميين الذين هم اليوم في نظر الرئيس القوي أعداء لأنهم يقولون الحقائق ويكشفون الأكاذيب.

شارك المقال