موسكو تعثرت ماذا عن طهران؟

أنطوني جعجع

هل وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الفخ حقاً، أم أنه كان يعرف ماذا يريد من حربه على أوكرانيا وما كان ينتظره هناك؟

وهل يخرج من مغامرته منتصراً أم يخرج منها كما خرج أسلافه من أفغانستان وأوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي؟

لا شك أن بوتين، ومهما كانت مبرراته، يعاني مأزقاً جدياً لا يستطيع الانتصار فيه الا جريحاً في حال الخطر ولا يستطيع الهزيمة فيه الا قتيلاً.

فما يجري في أوكرانيا منذ أكثر من شهر، دخل مرحلة استنزاف تأكل من هيبته القيادية على مستوى العالم أولاً ومن هيبة جيشه وترسانته العسكرية المتطورة ثانياً واقتصاده ثالثاً، اضافة إلى علاقاته الخارجية وتحديداً تلك التي يقيمها مع دول تراهن عليه للوقوف في مواجهة الاستراتيجية الأميركية، من أمثال ايران وسوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية، وصولاً الى الصين…

حتى الآن، ليس في الأفق ما يوحي بأن بوتين قاب قوسين أو أدنى من تحقيق انتصار كاسح في أوكرانيا، وهو ما يفسر التحول اللافت في شروط موسكو لوقف القتال، وهي شروط تعكس الرغبة غبر المعلنة في طي ملف الحرب وحصرها في أوكرانيا قبل أن تفلت في شكل ينقل الحرب من حرب محدودة في المكان والزمان الى حرب أوسع مع أوروبا وأميركا وحلف الأطلسي معاً.

وحتى الآن أيضاً تبدو أميركا في وضع مريح، وهي تكيل الضربات الى الخصم الروسي من دون أن تتكبد قتيلاً واحداً، تماماً كما فعلت في أفغانستان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتماماً كما فعلت في مواجهة الخصم السوفياتي عندما أسهمت في إسقاط الأنظمة الشيوعية الواحدة بعد الأخرى من دون أن تتكبد أيضاً قتيلاً واحداً.

انه الفارق بين جبار يستخدم عضلاته، أي الكرملين، وجبار آخر انتقل من حرب العضلات الى حرب الأزرار.

ولب الموضوع ليس هنا فقط، لكنه في مكانين آخرين ويتمثل في سؤال خطير، هل تقع الصين في فخ مماثل وتنقض على تايوان وهي التي تدرك أن ما أصاب موسكو قد يصيب بكين؟ وهل تقع ايران في هذا الفخ لتجد نفسها في حرب أو مواجهة مع الشرق والغرب معاً؟

الواضح حتى الساعة أن بكين، ليست في وارد أي مغامرة غير مدروسة قد تخوضها في توقيت غير مناسب وفي مواجهة مع خصم يملك من الأسلحة المتنوعة ما يجعل أي انتصار كامل في أي حرب نوعاً من المعصيات، اضافة الى أن انتشار وباء كورونا في الصين فجأة قد طرح أكثر من علامة استفهام حيال توقيت هذا الانتشار وحساباته… اما ايران، فلا يبدو أنها في وارد استنساخ الحذر الصيني ولا تحاشي المأزق الروسي في شكل مطلق، وسط معطيات وتطورات تؤكد أن قادة ايران يرون في ما يجري في العالم فرصة مؤاتية لتسجيل مكاسب استراتيجية أو على الاقل الاحتفاظ ببعض من مكاسبها الاستراتيجية المزمنة.

وفي معنى آخر، تعتقد ايران أن الانشغال الاميركي بالاقتصاص من بوتين والبحث عن موارد طبيعية بديلة، والتهالك الخليجي للانسحاب من حرب اليمن، ستجعل واشنطن أكثر تساهلاً وأكثر حاجة الى ايران وأكثر استعداداً لتقديم تنازلات تصل الى حدود جوائز الترضية، مستغلة حال الفتور القائمة بين واشنطن وكل من السعودية والامارات وحال الخيبة في الأوساط السياسية والعسكرية في اسرائيل.

لكن الحسابات الايرانية لم تكن على قدر الآمال المنشودة، وأدركت طهران أن الاتفاق النووي وحده لا يكفي لارضاء الأميركيين وأهل الخليج، اذ أسهمت الضغوط الخليجية والاسرائيلية في طرح موضوع الصواريخ الايرانية البالستية على طاولة البحث، وفي ثني واشنطن عن سحب “الحرس الثوري” الايراني من لائحة المنظمات الارهابية، ودفعت العرب واسرائيل وأميركا الى عقد ثلاث قمم متتالية في كل من شرم الشيخ والعقبة والنقب كانت جميعها جبهات عسكرية واقتصادية وسياسية متماسكة في مواجهة ايران التي لجأت الى ٣ جبهات: الجبهة اليمنية التي قصفت منها مرافق النفط في السعودية، والجبهة الفلسطينية التي تحركت فيها حرب الضربات المتتالية في شوارع اسرائيل، والجبهة اللبنانية التي تحركت فيها تهديدات “حزب الله” باستخدام المسيرات والصواريخ بحجة الدفاع عن الثروة البحرية اللبنانية من التوسع الاسرائيلي والتآمر الأميركي.

والواضح أن ايران التي لم تدرك حجم المأزق الذي يعانيه بوتين في أوكرانيا، ولا أسباب الحذر الصيني، قادت نفسها الى أفخاخ الشرق الأوسط، وتحولت هدفاً موازياً للهدف الروسي ولو بصفة المؤجل لا المعجل، ودفعت الأميركيين الى تعزيز أمن الخليج عبر شبكة دفاعات جوية “باتريوت” وتراجعت عن نزع صفة الارهاب عن “الحرس الثوري”، وفرضت عقوبات جديدة على عدد من الكيانات الايرانية، وباركت قيام محاور عربية – اسرائيلية، وفصلت بين ايران “النووية” وايران “الارهابية”، وتراجعت عن سحب قواتها القتالية من العراق، وعززت نفوذها السياسي والاجتماعي والديبلوماسي في لبنان اضافة الى العسكري من خلال تكثيف المساعدات التسلحية للجيش اللبناني.

وسط هذه الأجواء، لا بد من السؤال، هل تواصل ايران اللعب على حافة الهاوية، أم تلجأ الى تكتيك آخر يتمثل في تمرير “هدنة الشهرين” التي اقترحتها الأمم المتحدة في اليمن، وتفكيك الهدنة في فلسطين لشد عصب الممانعة في لبنان، في محاولة منها لتمرير انتخابات نيابية لبنانية تعتقد أنها ستنتهي لمصلحتها مجدداً، وإبقاء الورقة الفلسطينية في يدها بعدما انحسر رونقها تحت ضربات التطبيع المتلاحق بين العرب وإسرائيل… فهل يقرأ التيار السيادي جيداً الاستراتيجية الايرانية القريبة من خيار المغامرة، في رص الصفوف لانتزاع الغالبية في البرلمان المقبل، كما فعل السياديون في العراق، أم يمنحوا طهران متنفساً قيماً يكون تعويضاَ لتعثرها العسكري في مأرب اليمنية، والخيبة السياسية في بغداد، والاشتباك الاقتصادي في أسواق النفط، والديبلوماسي في الأوساط العربية والعالمية وحتى الرياضي من خلال أزمتها المعنوية مع منظمة “الفيفا” على أبواب المونديال؟

انها واحدة من أثمن الفرص التي يمكن أن يشهدها لبنان، وواحدة من أحرج الفرص التي تواجهها ايران، وواحدة من أمضى الفرص أمام العودة العربية الى لبنان ومعها العودة الإصلاحية التي تحول دون ذوبان هذا البلد في التجربة الاسلامية الايرانية، فاما ينجح اللبنانيون في توظيف هذه التطورات في تغيير قوانين اللعبة، والنزول من المركب الايراني المبحر في بحر هائج، واما يغرقون معاً في وقت ارتدى العالم بأسره ثياب القتال وتخلى عن سياسات المسايرات والتنازلات…

انه في اختصار العيش في عالم جديد تُحاصر فيه موسكو، فترتبك الصين وتتوحد أوروبا وتستفرد أميركا، وتُعاقب كوريا الشمالية وتختنق ايران، وتتحول الدول الصغيرة الواقفة خارج الزمن، اما الى ضحايا تحت أقدام الفيلة واما الى جوائز ترضية على طاولة “الفاتحين” الجدد.

شارك المقال