فرنجية – جعجع – باسيل… بعبدا مقفلة!

أنطوني جعجع

في الظاهر، هم ثلاثة مرشحين أساسيين الى رئاسة الجمهورية، لكنهم في الواقع ثلاثة طامحين لا يملك أي منهم الفرصة الحاسمة التي تفتح له الطريق الى قصر بعبدا… هم سليمان فرنجية وسمير جعجع وجبران باسيل، أي ثلاثة شماليين يجمعهم شيء واحد فقط هو حلم الرئاسة الأولى بأي ثمن وبأي وسيلة.

لكن الطموح شيء والواقع شيء آخر، وما كان يجدي في بعض التواقيت والمتغيرات قد لا يجدي في مشهد مماثل، خصوصاً في منطقة تشهد غلياناً متشعباً ومتصاعداً، وفي عالم نقلته الحرب الأوكرانية من خانة المتفرج على بعض الملفات ومنها الملف اللبناني، الى خانة المعني به كل على طريقته ووفق سيناريو مدروس قائم على شعارين: واحد يرفعه الغرب ويرفض وقوع لبنان في القبضة الايرانية سواء من بوابة السلاح أو من بوابة الافلاس، وواحد يرفعه الشرق ويرفض وقوع لبنان في القبضة العربية – الأميركية سواء من بوابتي المال والاقتصاد أو من تفوق المجتمعين المدني والسيادي…

وقد يسأل سائل عن الأسباب التي تضع المرشحين الثلاثة خارج الحظوظ الرئاسية، والجواب لا يحتاج الى الكثير من التفسيرات والتأويلات في وقت لا يملك أي منهم ناخباً حاسماً يستطيع فرضه رئيساً وحيداً حتى لو كان يملك الغالبية في المجلس النيابي الجديد، وحتى لو كان يملك من السلاح ما يكفي لاشعال لبنان والشرق الأوسط معاً، أو من المال ما يكفي لشراء ما يتوافر من أصوات وضمائر.

وفي معنى آخر، لن تكون الغالبية المقبلة صاحبة الكلمة الفصل في اختيار الرئيس لأسباب محلية وخارجية، وأسباب شخصية تتعلق بمسيرة كل رجل في ماضيه وحاضره وولاءاته ورؤياه المستقبلية.

ويتفق الكثير من المراقبين المحليين والخارجيين، على أن جبران باسيل فقد معظم الفرص والأوراق التي يمكن أن تجعله خليفة حتمية لعمه الرئيس ميشال عون، وفقَد كل مصداقية يمكن أن تجعله لدى الرأي العام المحلي والخارجي الحل المنشود أو المنقذ المطلوب أو الحيثية المؤهلة لسحب لبنان مما يعانيه من تخلف وفساد وانقسام وعزلة.

ويتفق هؤلاء أيضاً على أن باسيل يملك شخصية لا توحي بالثقة حتى لدى أوثق حلفائه ومنهم “حزب الله” الذي يرى فيه شخصية متهورة تتقن كسب الأعداء أكثر مما تتقن كسب الأصدقاء، وشخصية متقلبة لا تقبل الشراكة مع أحد ولا تقبل الرفض من أحد.

ويقول أحد المقربين من باسيل، ان الأخير يؤمن بأنه كان العامل الأساس في وصول عمه الى رئاسة الجمهورية من خلال اتفاقات وتسويات هوائية أبرمها مع “القوات اللبنانية” وحركة “أمل” وتيار “المستقبل”، قبل أن ينفض يديه منها بعدما أدى الجنرال اليمين الدستورية، وأنه يستحق أن يقبض ثمن عنائه في هذا المجال.

ويضيف: ان باسيل يرفض الاقرار بأنه لا يمكن أن يكون بشير الجميل على مستوى الكاريزما ولا كميل شمعون على مستوى الدهاء والشعبية، ويرفض أيضاً الاعتراف بأنه فشل في السياستين الداخلية، على مستوى الانجازات والإصلاحات، والخارجية على مستوى العلاقات الانفتاحية، وتحوّل الى العنصر الأكثر عرضة للكراهية والانتقاد والمحاسبة، مشيراً الى أن العقوبات الأميركية التي فرضت عليه حوّلته الى شخصية عشوائية مستعدة لفعل أي شيء، والتنازل عن أي شيء، والمخاطرة بكل شيء لاستعادة ما فقده من ثروات وامتيازات…

ويصر الرجل الذي رافق باسيل في كثير من المحطات، على أن رئيس “التيار الوطني الحر” يرفض الاعتراف بأن واشنطن حاسبته بتهمة الفساد وليس لارتباطه بـ “حزب الله” وحسب، قائلاً: “لو كان هذا الأمر صحيحاً لكان على الأميركيين أن يبدأوا برئيس الجمهورية وصولاً الى آخر نائب أو وزير في محور الممانعة”.

ويتساءل المصدر المقرب: حتى لو حصل محور الممانعة على الغالبية، فمن يمكن أن ينتخب باسيل رئيساً للجمهورية؟ هل هو الرئيس نبيه بري؟ هل هو تيار “المردة”؟ هل هي كتلة وليد جنبلاط؟ هل هم أنصار سعد الحريري؟ هل هو حزب “القوات اللبنانية”؟ هل هو حزب “الكتائب”؟ هل هم المستقلون أو نواب المجتمع المدني؟

ويتابع: حتى “حزب الله” يجد نفسه في حيرة من أمره، فهو أمام حليف لا يتردد في الكلام عن سلام مع اسرائيل، ولا يرفض أي تعاون مع الأميركيين، ولا يملك الشعبية التي أوصلت عمه الى قصر بعبدا والتي يحتاج اليها مسيحياً للابقاء على غطاء شعبي يستر به مشروعه السلطوي في لبنان، مشيراً الى أن “حزب الله” لا يسعى الى رئيس عبء بل الى رئيس رافعة، لا يضطره بين الحين والحين الى النزول الى الشارع لاتقاذه أو تعويمه، وهذا ما يفسر الحملة التي قادها حسن نصر الله لانتشال باسيل من مأزق الانتخابات المقبلة.

وما ينطبق على باسيل ينطبق في معظمه على سمير جعجع ولو لأسباب مختلفة ومتباعدة، فالرجل لم يتمكن على الرغم من مرور الزمن على ملفات وظروف كثيرة، من الاطلالة على الناس كرجل دولة لا كواحد من أمراء الحرب، ولا الظهور بمظهر المقاتل الذي دفن ماضيه الثقيل في ذاكرة الناس، سواء عن حق أو عن باطل، ولم ينجح في إقناع الرأي العام أو المراقبين أو صانعي الرؤساء بأنه تحول الى الرجل الذي يمكن الركون اليه أو القبول به أو الرهان عليه.

ويقول أحد المقربين من جعجع ان الأخير، يجد صعوبة في التحول الى زعيم مسيحي على غرار أسلافه الموارنة الأقوياء، أو زعيم وطني عابر للطوائف، مشيراً الى أن قاعدته الشعبية لم تتعد حدود “القوات اللبنانية” كحزب وموجات موسمية من الغالبية الصامتة كموقف.

ويضيف: ان قائد “القوات اللبنانية” لم يتقن الحفاظ على تحالفاته مع الطوائف الأخرى أو الأحزاب الأخرى، كاشفاً أن شخصية جعجع وحساباته الحزبية والسياسية كانت سبباً أساسياً في خلو جعبته من حلفاء ثابتين يعتد بهم في كل المناسبات والظروف. ويلفت في هذا الصدد الى التحول الدراماتيكي الذي نقله من “محبوب” السُنة ومرشحهم الرئاسي الى “العدو” الذي يجب أن يُعاقب بأي ثمن وبأي طريقة متاحة، على الرغم من أن أسباب هذا التحول لا تزال موضع سجال قاس بين الفريقين.

ويتفق الكثير من المراقبين على أن جعجع يستطيع أن يكون رئيساً ناجحاً على مستوى التنظيم والادارة، لكن ليس زعيماً مقبولاً على مستوى الشعبية والاستقطاب، مشيرين الى أنه في زمن الحرب كان يدفع ثمن انكساراته ولا يقبض ثمن انتصاراته، وأنه في زمن السلم عرف في أي موقع يجب أن يكون لكنه لم يعرف كيف يستقر فيه.

ويرى هؤلاء المراقبون أن فرص جعحع الرئاسية تكاد تكون معدومة حتى لو حصل على كتلة نيابية كبيرة، في وقت سقطت نظرية الرئيس القوي مع رئاسة ميشال عون، وفي وقت أضاع التأييد السني الواسع، والكثير من التأييد المسيحي المتمثل في حزب “الكتائب” والمسيحيين المستقلين والتغييريين، إضافة الى تردد درزي وقطيعة شيعية كاملة.

وذهب هؤلاء بعيداً الى حد القول ان وصول جعجع الى الرئاسة يحتاج الى ظروف تشبه الظروف التي توافرت للرئيس بشير الجميل وهو أمر مستحيل.

وما ينطبق على باسيل وجعجع يكاد ينطبق على سليمان فرنجية ولو بنسبة أقل حدة، فالرجل لا يعاني عداوات ثابتة مع أحد، ولا يحظى بشخصية الغائية تشبه شخصية جده ووالده، لكنه يصطدم بأمرين سلبيين: الأمر الأول يكمن في تحالفه المطلق مع النظام الحاكم في دمشق وتحديداً مع آل الأسد، ومع “حزب الله” وتحديداً السيد حسن نصرالله، الأمر الذي وضعه في خانة الشبهات في الأروقة الأميركية والعربية، ويكمن الثاني في عدم قدرته على الانتشار سياسياً في البيئة المسيحية غير الشمالية أو على الأقل البيئة السيادية التي تقف في مواجهة حلفائه التقليديين الأمر الذي جرّده من ثقة المسيحيين الخائفين وثقة بكركي المنتفضة.

لكن ما لا يعرفه سليمان فرنجية يتمثل في أن أكثر المعترضين على وصوله الى قصر بعبدا، هم الايرانيون أنفسهم، لسبب بسيط، وهو أن طهران لا تقبل المشاركة في رئيس للجمهورية اللبنانية مع أحد حتى لو كان بشار الأسد نفسه، فاما يكون على مثال ميشال عون أو لا يكون أبداً.

ويقول أحد المراقبين، ان “حزب الله” الذي يرفض أن يعطي سوريا مقعداً نيابياً يشغله الأمين العام لحزب “البعث” في البقاع ومقعداً آخر يشغله بعثي علوي في عكار، لن يقبل بوجود رئيس في بعبدا يدير أذنيه لكل من دمشق وطهران معاً، كاشفاً أن ايران تعتبر نفسها صاحبة الفضل في صمود الأسد وتنظر اليه كملحق في الهلال الفارسي وليس كواحد من أركانه.

ويضيف: ان ايران لم تنس في زمن الوصاية السورية، أن “حزب الله” كان ممنوعاً من المشاركة في أي حكومة بناء على أوامر أميركية، وأن السوريين كانوا يعتمدون على الرئيس نبيه بري في ادارة الملف الشيعي.

وأكثر من ذلك، يكشف المراقب نفسه، أن شخصية سليمان فرنجية العفوية والانفعالية لا تناسب حسن نصرالله الذي اعتاد التعامل مع الشخصيات المطواعة والخاضعة، وأن البيئة المارونية التاريخية التي ينتمي اليها الرجل تمثل بالنسبة اليه عامل تفجير في بعض المرات وعامل ضغط في مرات أخرى، موضحاً أن بيئة زغرتا هي غير بيئة حارة حريك، وأن تربية فرنجية لا تشبه تربية عون وباسيل وبالتالي لا يمكن التعامل معها بمونة مطلقة.

وأكثر من ذلك، يسود اعتقاد واسع أن فرنجية أخطأ عندما ناصر وزيره جورج قرداحي، ففقد آخر خيط يربطه بالخليج، وأخطأ أخيراً عندما ناصر روسيا في مواجهة أوكرانيا ففقد آخر خيط يربطه بالغرب، متناسياً أن موسكو اليوم، المعزولة والمحاصرة، هي غير موسكو التي أسهمت في وصول جده سليمان فرنجية الى الرئاسة في العام ١٩٧٠.

وهنا لا بد من سؤال بديهي: من يمكن أن يكون رئيساً للجمهورية اذاً؟

والجواب لا يقبل الكثير من الحيرة والتأويل، ويتمثل في أن ايران التي تتهالك لرفع العقوبات عنها وعن “حراس” ثورتها ورفع الضغوط عن أوراقها الثمينة في العراق واليمن وفلسطين، لا يمكن أن تفعل كل ذلك من دون تقديم تنازلات أو عقد تسويات مع الأميركيين في كثير من المناطق ومنها لبنان، بعدما لمست أن محور الشرق بعد حرب أوكرانيا هو غيره قبلها، وأن العودة الى الحظيرة الدولية لا يمكن أن تتم من خلال حروب هنا أو هناك لن تكون أقل كلفة من حرب روسيا في أوكرانيا.

وأكثر من ذلك لا يبدو أن ايران تشعر بأي تردد في الوصول الى رئيس توافقي مع الأميركيين، في وقت لا يزال “حزب الله” على سلاحه، وفي وقت لا يستطيع الجيش أو جعجع الانقلاب عليها ولا يستطيع فرنجية وباسيل الخروج من تحت جناحها.

وانطلاقاً من هذا الواقع، لم يعد الأمر يتعلق برئيس قوي أو رئيس ضعيف ، بل برئيس لا يختاره فريق على غرار ما حدث في العام ٢٠١٨، بل الظروف التي ستحل على المنطقة ولبنان من الآن وحتى نهاية العهد، فاما رئيس يختاره الجميع واما قصر خال من سكانه حتى إشعار آخر…

شارك المقال