محطات “قاتلة” من الحرب الأهلية في طرابلس

إسراء ديب
إسراء ديب

سقطت مع مرور الأعوام خطوط التماس العسكرية التي وضعت بين جبل محسن وباب التبانة بعد أكثر من 20 جولة عنف عسكرية، كانت ناتجة عن صراعات ولدت في الحرب الأهلية اللبنانية التي وقعت خلال السبعينيات وانعكست شؤماً وفقراً على معظم الشعب اللبناني، خاصّة الطرابلسيين الذين واجهوا أقسى المعارك في حرب فرضت نفسها ولا تزال على المشهد السياسي المحلّي.

اختفت الدشم، السواتر الترابية، والمتاريس التي وضعت في مناطق وأحياء حساسة شهدت أعنف المعارك باحتقان قيل عنه انّه مذهبي لكنّه سياسي في الواقع، لتُعلن هذه المناطق الفقيرة منذ أعوام رفع الراية البيضاء بغية اذابة الجليد والأحقاد التي راكمتها قوى سياسية أرادت كسب منافع سياسية ومالية على حساب الأهالي الذين لم يكن ذنبهم سوى أنّهم موجودون على هذه الأرض، التي يرونها تستحقّ الحياة لا سيما بعد الحرب الأهلية التي لا تزال ندوبها تؤلم أهالي الفيحاء حتّى هذه اللحظة.

يُمكن القول، انّ مشاهد الحروب التي عانت منها المدينة، لا سيما تلك المرتبطة بالحرب السبعينية لا يزال طيفها وتأثيرها يُرافقان أبناء هذه الحرب الذين يتوجسون من احتمال عودة هذه المعارك إلى الواجهة من جديد لمصالح سياسية. من هنا يبقى طيّ صفحة هذه الحرب من أصعب الخطوات التي يُمكن لأيّ طرابلسي القيام بها خاصّة في كلّ ما يرتبط بـ”الردع” السوري وما رافقه من قتل وتهجير وكبت كبير ضرب أمن المدينة وأمانها، ولا تزال انعكاساته تفرز كرهاً وحقداً على هذا النظام المستمرّ اليوم في تهجير شعبه بقسوة.

محطات صعبة

بسياسة الخطف والاعتقال، عُرف النّظام السوري الذي كان متحكّماً بقرارات لبنان السياسية، العسكرية والأمنية في الحرب اللبنانية وبعدها، إذْ كان يرى أنّ لبنان تابع له ويُمكنه “سحقه” في أيّ لحظة، وبالتالي إنّ رفض الطرابلسيين لهذه السياسة التدميرية، جعلهم يقاومون النظام الذي استباح الأمن في المدينة لأعوام.

في العام 1976، خطف أبو خليل ع. من باب التبانة، (متزوّج ولديه 5 أطفال)، وحتّى هذه اللحظة لم تعرف زوجته مكانه وما إذا كان حياً أو ميتاً، ومن المسؤول الحقيقي عن خطفه، مع العلم أنّ أصابع الاتهام حينها توجهت الى النّظام السوري بالتأكيد.

ولا يُعدّ أبو خليل (الذي ينتمي إلى عائلة ترفض وجود السوريين محلّياً وقاومتهم بالقول والفعل) الشخص الوحيد الذي خطف في تلك الفترة، بل هناك الآلاف ممن خطفوا ولا يزال مصيرهم مجهولاً إلى يومنا هذا.

أمّا أم حسني، فقد ابيضت عيناها من الحزن والهمّ على ابنها الشاب حسني ب. وهو شاب عشريني (21 عاماً ولديه ولدان)، كان قد اشترى خلال فترة السبعينيات حافلة صغيرة لنقل الخضار والفاكهة، وخلال عودته من بيروت إلى طرابلس ولدى وصوله إلى البترون برفقة صديقه الذي يملك حافلة أخرى، اضطر إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى (بعد وضع صخرة كبيرة أقفلت نفق شكا لفصل الشمال عن بيروت)، وظهرت أمامهما فرقة عسكرية من حزب لبناني معروف خلال الحرب (وهو موجود وفاعل حتّى اللحظة) أخذ من حسني حافلته وقتله، وذلك حسب رواية والدته التي توفيت حسرة على ابنها الذي صبرت سنوات لتعرف مصيره.

وفي التفاصيل التي تروى عن هذه الأم المفجوعة، أنه بعد رحلة بحث طويلة عن نجلها لأعوام، اضطرت الى زيارة زوجة أحد السياسيين اللبنانيين التابعين للحزب المذكور، وهُدّدت بالقتل في مقرّ الحزب عند وصولها إليه، أمّا زوجته فأشفقت عليها وسألت عن ابنها المفقود، لتُؤكّد لها فيما بعد أنّه قتل بسبب ظروف الحرب، ما أنهى ملف انتظارها لابنها الذي كانت كلّما شعرت بـ “دعسة” في المبنى الذي تقطن فيه في التبانة، اعتقدت أنّه ابنها لتعيش خيبة أمل رافقت كلّ أمّ شهدت على هذه الحرب.

أمّا رجب إ. وهو من التبانة أيضاً (متزوّج ولديه طفلان وكانت امرأته حاملاً)، فقتل في حافلة عين الرمانة. ومن بقي حياً ليتحدّث عن هذه الحادثة كان صديقه من آل الوزة، والذي اعتقد المسلّحون حينها أنّه ميّت بعدما أوحى إليهم بأنّه من بين المقتولين بعد إصابته. وعقب هروب القتلة، توجه زاحفاً من مكان إلى آخر، ليصل إلى منطقة تابعة للنفوذ المسيحي لكنّه لم يقتل خلافاً لتوقعاته، بل أرسل إلى زغرتا التي سلّمته بدورها إلى منطقة القبة في طرابلس، حتّى بعد اشتباكات شهدتها المدينتان.

وفي وقت تحوّلت مدرسة “الأميركان” في القبة إلى “مقبرة”، عاش الطرابلسيون صراعات دموية فرضتها الأحزاب، وحركة التوحيد “التي ضاعفت نفوذها في فترة دفعت خلالها مناصريها إلى التخطيط بالقول والفعل لتحويل طرابلس الى إمارة تقتل المسيحيين والشيوعيين وتخيفهم، كما تعاقب النساء السوافر بقتلهنّ أو رمي ماء النار عليهن، وهي أحداث دفعت المسيحيين إلى الهرب من المدينة، فيما بعض المواطنين خضع لهذه السياسة، ومن بينهم أحد المصوّرين الذي أجبر على توسل هذه الحركة كي لا تقتل نجله الذي هددته اعتقاداً منها بأنّه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، لكنّها أرسلت جثته إليه بعد فترة، على الرّغم من عدم انتماء الشاب إلى هذا الحزب”.

شارك المقال