العالم… بين دول صاعدة وقوى يأفل نجمها

حسناء بو حرفوش

يتردّد صدى الحروب بطرق غير متوقعة فتتدحرج أي حرب صغيرة في منطقة ما ككرة ثلج لتستحيل حربًا أكثر فتكًا في مكان آخر من المعمورة أو جمرا مستعرا لحرب جديدة في منطقة ما… هكذا ينظر جورج فريدمان إلى آخر التطورات على الساحة الأوكرانية، في تحليل يسطّر بروز بولندا على الخطوط الأمامية للقيادة في أوروبا.

بولندا إلى الزعامة

“لا يمكن فهم الحرب بهذه البساطة، كما نقرأ في التحليل. ولا يمكن أن يقتصر النظر إلى الحرب في أوكرانيا على المنظور الضيق والخاص وإنما يجب أن نقرأ الانعكاسات أيضا، ولعل أهمها في الوقت الحالي، بروز بولندا كزعيمة لأوروبا. ومن الناحية الجغرافية، بولندا هي الأقرب إلى أوكرانيا، وبالتالي تشهد تمركز الكثير من قوات الناتو عدا عن الفرقة الأميركية 82 المحمولة جوا. وذلك الأهم لأنه يعني أن الفرقة 82 تعمل مع القوات البولندية، التي تدرب الكثير منها بالفعل منذ عدة سنوات مع القوات المدرعة الأميركية في الداخل البولندي. وهذا يعني أيضا بالنسبة للولايات المتحدة، أن قواتها تألف جيدا التضاريس التي قد تخوض فيها أي معارك كما تستفيد من علاقات الألفة مع البولنديين. وتتمثل مهمة القوات الأميركية في ردع أو صد الغزو الروسي لبولندا أو الانتقال عند الضرورة، إلى أوكرانيا والاشتباك مع القوات الروسية هناك وإلحاق الهزيمة بها.

الولايات المتحدة وألمانيا

وبالعودة إلى التجارب الماضية وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، كان على الولايات المتحدة نشر قواتها في أوروبا من خلال وضع قوة رئيسية في ألمانيا لدرء الهيمنة السوفياتية على القارة. وساهم ذلك حتما بالتقريب بين البلدين العدوين سابقًا سياسيًا واجتماعيًا. كما خلق استثمارات ضرورية جعلت من ألمانيا في نهاية المطاف القوة الرائدة في أوروبا، وهو أمر ما كان بالإمكان تصوره عام 1945. وأصبحت الرفاهية الألمانية مطلبًا استراتيجيًا للولايات المتحدة.

أضف إلى ذلك أن تمركز القوات الأميركية في بلد ما يحول استقرار الدولة المضيفة لمصلحة استراتيجية للولايات المتحدة، وترتبط الجغرافيا والمصالح البولندية الآن بالمصالح الأميركية. وبعد فترة من الشعور بالغربة بين الولايات المتحدة وأوروبا على خلفية إحجام هذه الأخيرة عن الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الناتو، وما اعتبر كنزعة عسكرية أميركية مفرطة، أحدثت أوكرانيا تحولا في أوروبا لا يدري أحد إلى متى قد يستمر. لكن ما سيبقى على الأرجح هو وجود القوات الأميركية في بولندا. كما لا يزال لدى الولايات المتحدة قوات في ألمانيا بعد أكثر من 30 عامًا من نهاية الحرب الباردة.

تركيا والخطوات الاستباقية

وستشكل حرب أوكرانيا اختبارا ثانويا للكيفية التي قد يتغير بها ميزان القوى الأوروبي ورد الفعل الأميركي. وإذا التفتنا إلى مكان آخر، نجد أن الأتراك قاموا بشيء مثير للاهتمام من خلال فرز جزء كبير من أسطولهم البحري في البحر الأسود، حيث غرقت السفينة الروسية موسكفا. وحافظت تركيا على مسافة بعيدة عن الحرب في أوكرانيا، على الرغم من توفيرها بعض الطائرات المسيّرة للقوات الأوكرانية. والجدير بالذكر أن تركيا معادية تاريخياً لروسيا لكنها اعتبرت مؤخرا أنه من الصعب التنبؤ بمواقف الولايات المتحدة، ومع ذلك من المحتمل أن الأداء الضعيف للقوات الروسية في أوكرانيا قد دفع الأتراك إلى إعادة تقويم التهديد الروسي. كما من المحتمل أن تركيا لم تعد تساوي بين القوتين الروسية والأميركية. من وجهة نظر تركيا، إذا تمكنت روسيا من استخدام أسطولها البحري لفرض حضورها في البحر الأسود، ستشكل تهديدًا محتملاً لتركيا. فقد تقرر روسيا في النهاية أن أسطول تركيا يشكل تهديدًا وتضرب سفنها وموانئها. لذلك، انتقل الأتراك إلى البحر الأسود في خطوة استباقية للتحرك الروسي.

وبموازاة مواجهة روسيا في البحر الأسود، ركّزت تركيا على مصالحها الكبيرة في كل من جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، في إطار الإجراءات السرية والديبلوماسية التي يمارسها الطرفان التركي والروسي. ونظراً لأداء روسيا في أوكرانيا، قد تعيد دول مثل أذربيجان وكازاخستان النظر في علاقاتها مع موسكو. ويفتح ضعف روسيا حتى هذه النقطة الباب أمام عمليات إعادة تنظيم استراتيجية، تسمح لتركيا بالتأكيد على وجودها في البحر الأسود وربما يمهد لها الطريق لمتابعة مصالح أخرى. 

ماذا عن الصين؟

في الأصل، دخلت الصين في علاقة مع روسيا لخلق ثقل موازن هائل للولايات المتحدة. لكن على الرغم مما قد تشير إليه التصريحات العامة، أدرك الصينيون أن العلاقة مع روسيا مسؤولية وعبء وليست ميزة. ليس لدى روسيا الوزن الكافي لإبعاد الولايات المتحدة عن تهديد الصين. كما تفتقر إلى القوة العسكرية لتنفيذ الحملة الأوكرانية من دون استدعاء تعزيزات سورية. وليست الصين في وضع يسمح لها بإرسال قوات لمساعدة روسيا.

وهنا عوامل لا يمكن التغاضي عنها: أولاً، لن يوفر إنقاذ حملة روسيا أي فائدة مباشرة للصين، لا بل قد يكون التدخل الصيني كارثيًا. ثانيًا، والأهم من ذلك، شهدت الصين تأثير الحرب الاقتصادية التي قادتها الولايات المتحدة. وقد يؤدي النشاط في أوكرانيا أو تقديم مساعدات كبيرة إلى روسيا إلى هجوم اقتصادي مماثل على الصين.

وعلى غرار روسيا، ليست الصين قوية كما تبدو، مع حلول نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المرتبة 81 في العالم. (روسيا تأتي في المرتبة 85). كما أن سوقها المحلية للسلع المتطورة محدودة، وهي بحاجة للحفاظ على القدرة على التصدير تحت وطأة زعزعة الاستقرار. وحتى مع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، تشكل الولايات المتحدة أكبر زبون للصين. وبالتالي، ستشكل مواجهة كل من خسارة الصادرات والحرب الاقتصادية في وقت ينكمش فيه معدل النمو الاقتصادي في الصين ويتزايد فيه التوتر الاجتماعي حول عدم المساواة في الثروة، أمرًا خطيرًا. وسيغدو غزو تايوان جنونيا، لأنه لن يمنح الصين سوى الشيء الوحيد الذي يفيض عن حاجتها، الأرض. كما أن احتمال الفشل موجود. وستكون الاستجابة الاقتصادية الأميركية حادة لدرجة تزيد الضغط على الاقتصاد الصيني.

في الخلاصة، يمكن ملاحظة أن بولندا وتركيا تكتسبان أهمية أكبر نتيجة للحرب، بالتزامن مع أفول نجم الصين. وفي حين تتزايد التأثيرات، لا شك أن العالم سيشهد صعود المزيد من الدول وانحدار أخرى على مدى الأعوام المقبلة”.

شارك المقال