أزمة المصداقية النووية بين روسيا والناتو

حسناء بو حرفوش

لقد حطم الغزو الروسي لأوكرانيا الشعور بالأمن والطمأنينة في ما يتعلق بديناميكيات الحرب واسعة النطاق بين القوى العظمى أو إمكان التصعيد النووي، وفقا لتحليل تايلر بوين من “مركز هنري كيسينجر” في جامعة “جونز هوبكينز للدراسات الدولية المتقدمة”. فبعد مضي عقود من الزمن لم يكن فيها على الأميركيين والأوروبيين القلق، كشف غزو أوكرانيا عن نطاق طموحات فلاديمير بوتين العظيمة: إعادة تشكيل أكبر قدر ممكن من الإمبراطورية الروسية/ السوفياتية القديمة في أوروبا الشرقية.

وألقى نزع الشرعية عن أوكرانيا بظلال الشك على شرعية الجمهوريات السوفياتية السابقة مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا وصولا حتى الى الدول المجاورة مثل فنلندا وبولندا. ومما لا شك فيه أن بوتين يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي “أكبر كارثة جيوسياسية شهدها القرن” ويشعر بأن مراجعة ميزان القوى الحالي في أوروبا ضرورية لضمان أمن روسيا.

وعلى المدى الطويل، اعتمد الناتو نشر قوات تقليدية كافية في أوروبا الشرقية لحرمان روسيا من القدرة على الاستيلاء على دول مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا وبولندا. لكن الناتو عاجز عن القيام بذلك في الوقت الحالي، وسيستغرق تطوير قدرته على ذلك بعض الوقت. وفي ظل هذا الضعف، سيشكل الردع النووي الأميركي والأسلحة النووية التكتيكية لحلف شمال الأطلسي العمود الفقري للأمن الأوروبي.

وتعتمد الطريقة المثلى لضمان مصداقية هذا الرادع بدورها على نتيجة الحرب الحالية. ففي حال تورطت روسيا، كما يبدو مرجحا، في معركة طويلة الأمد في أوكرانيا، قد تمتلك الحافز لتوسيع الصراع من خلال مهاجمة إحدى دول الناتو في شرق أوروبا. مقابل ذلك، قد يتوجب على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي زيادة مصداقية الردع النووي من خلال تبني شكل معتدل من تكتيكات سياسة حافة الهاوية التي صاغها جيل سابق من الاستراتيجيين النوويين. وسيستلزم ذلك تغيير الموقف النووي للولايات المتحدة والناتو بحيث يصدر التهديد باستخدام الأسلحة النووية في وقت مبكر من الصراع. لكن هذا الحل ليس مثالياً ويجب اعتباره قصير المدى فقط على الرغم من أن الأمن الأوروبي يتطلب اليوم من الناتو تبني إحدى درجات سياسة حافة الهاوية.

دول البلطيق والخطر المحدق

لا تملك دول الناتو في أوروبا الشرقية، ولا سيما دول البلطيق، القدرة على حماية نفسها بمفردها بمواجهة المد الروسي. وعلى الرغم من أن أداء الجيش الروسي ظهر ضعيفاً في المرحلة الأولى من الحرب في أوكرانيا، ينبغي عدم اعتبار ذلك دليلاً على أن دول الناتو في أوروبا الشرقية تمتلك القدرات الكافية للدفاع التقليدي. في الواقع، قد يكون أداء هذه الدول أسوأ مقارنة بما يحصل في أوكرانيا لأن جيوشها أصغر من الجيش الأوكراني. ويجب أن تتوقع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أن هجوماً روسياً على إحدى دول الناتو سيتطور بشكل مختلف ربما مع استخدام روسيا المزيد من قواتها في المرحلة الأولى من الحملة.

وقد يقال ان العديد من القوات الروسية غارقة في مستنقع أوكرانيا، لكن روسيا لا تزال تتمتع بالقوة التقليدية لتوسيع الحرب الحالية وصولاً إلى أراضي الناتو. على سبيل المثال، يمكنها الافادة من قوتها في الضربة التقليدية بعيدة المدى لمهاجمة قوافل الإمدادات المتجهة إلى أوكرانيا، وهذا ما هددت به مؤخراً. علاوة على ذلك، يمكنها أن تحاول الاحتفاظ بمكاسب إقليمية في شرق أوكرانيا وجنوبها بدلاً من خوض مهام هجومية للاستيلاء على المزيد من الأراضي. كما قد يؤدي التركيز “الدفاعي” الجديد في أوكرانيا إلى تحرير المزيد من القوات الروسية لشن هجوم على إحدى دول الناتو في شرق أوروبا. باختصار، لا يزال لدى روسيا القدرة على شن ضربات ضد حلفاء الناتو وتحويل تركيز قوتها القتالية ضدهم إذا عكفت على ذلك.

وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، من المرجح الآن أن يزيد الحلفاء الأوروبيون في الناتو استثماراتهم في قواتهم المسلحة وهنا يكتسب قرار ألمانيا بمضاعفة ميزانيتها الدفاعية دلالة. كما أن زيادة عدد قوات الناتو المنتشرة في أوروبا الشرقية يعد أمراً إيجابياً في ظل التطورات الأخيرة، علماً أن النتائج لن تظهر قريباً.

وفي الوقت الحالي، يلوح الناتو دفاعا عن دول البلطيق بالرد على أي هجوم روسي بترسانته النووية. لكن قعقعة بوتين النووية الأخيرة تشير إلى أنه قد لا يأخذ هذا التهديد على محمل الجد وأنه يعتقد أن واشنطن ستتراجع بدلاً من المخاطرة بحرب نووية. في الواقع، حتى أثناء الحرب الباردة، كان من الصعب إقناع الاتحاد السوفياتي بأن الولايات المتحدة ستقايض برلين مقابل بوسطن. لقد أدى توسيع التحالف إلى تصعيد هذا التحدي. واليوم كيف يمكن للولايات المتحدة أن تقنع بوتين بأنها مستعدة لاستبدال فيلنيوس بنيويورك؟

سياسة حافة الهاوية

يكمن الحل في تبني الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مفارقة سياسة حافة الهاوية، ومحاولة منع الحرب من خلال التركيز على أن احتواءها سيصبح صعباً بمجرد أن تبدأ. وتستخدم الدول الأسلحة النووية التكتيكية لزيادة المخاطر المشتركة للتصعيد النووي في حالة نشوب حرب. ونظراً الى أن الأسلحة النووية التكتيكية أقل تدميراً من الأسلحة النووية “الاستراتيجية”، يُنظر إليها على أنها أكثر قابلية للاستخدام. ولكن في الوقت نفسه، يزيد استخدام الأسلحة النووية التكتيكية من مخاطر نشوب صراع نووي عام أكثر من استخدام القوات التقليدية، مما يعني أن التهديدات باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في وقت مبكر من الحرب تزيد من مخاطر الكوارث المشتركة.

وتتضمن تكتيكات سياسة حافة الهاوية أيضاً المفاضلة بين الردع وخطر التصعيد. يمكن لدولة ما أن تستخدم استراتيجية “سياسة حافة الهاوية” التي تولد مخاطر منخفضة للاستخدام النووي، لكن إذا كانت الدولة تفتقر إلى القوة التقليدية لإنكار أهدافها في الحرب، فقد يحفز ذلك الخصم على الهجوم. واستخدمت الولايات المتحدة شكلاً من أشكال سياسة حافة الهاوية القصوى في أزمة برلين 1958-1959 من خلال التهديد بالتصعيد بالاستخدام النووي في وقت مبكر جداً من الحرب.

وبالعودة إلى التطورات الحالية، أي نوع من الخصوم يواجه الناتو في موسكو؟ تعتمد الإجابة على نتيجة الصراع الحالي. وبناءً على التطورات، من غير المحتمل لروسيا تحقيق نصر سريع والإطاحة بالحكومة الأوكرانية لكن في الوقت نفسه، من غير المرجح أن تقبل روسيا بالهزيمة في أوكرانيا في أي وقت قريب. ومن أجل كسر الجمود في الحرب وتحقيق النصر، قد يحاول بوتين استهداف الإمدادات العابرة بينما لا تزال في إحدى دول الناتو في شرق أوروبا، وخاصة بولندا، أو شن هجوم محدود ضد إحدى دول البلطيق من أجل الاستيلاء على الأراضي ذات الأغلبية الناطقة بالروسية. ويمكن أن يعزز ذلك مطالبته بالدفاع عن المتحدثين بالروسية في الخارج. ويشكل هذا السيناريو اختباراً جاداً لردع الناتو والولايات المتحدة. ويتوجب على الطرفين تغيير موقفهما النووي لاستباق أي تحرك روسي، ومن يدري فقد يشكل التهديد بالاستخدام النووي المبكر في أي نزاع بين الناتو وروسيا، أفضل طريقة لحماية أوروبا من طموحات بوتين”.

شارك المقال