سلام لـ”لبنان الكبير”: القرارات الاقتصادية الجريئة تنقذ البلد

هدى علاء الدين

يُفضل البقاء في أجواءٍ من التفاؤل والإيجابية ويؤمن بأن لا شيء مستحيل. لا يندم على توليه وزارة الاقتصاد في هذه المرحلة القاسية من تاريخ لبنان على الرغم من أنها مهمة صعبة ومليئة بالتحديات. فخور بتواجده في هذا المركز إيماناً منه بضرورة الوقوف إلى جانب وطنه في محنته، ويعتبر قبول منصبه كوزير للاقتصاد وساماً على صدره يحمّله مسؤولية العمل الدؤوب مع الوزراء كافة لإنقاذ لبنان من أكبر نكسة حلّت به عبر إنجاز خطوات أولية ضمن سلسلة خطوات يحتاجها عاجلاً لبدء رحلته نحو التعافي الاقتصادي.

بهذه الكلمات اختصر وزير الاقتصاد أمين سلام مهمته ومهامه الوزارية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في أكثر المراحل استثنائية في تاريخ لبنان الحديث، معرباً في حديث لموقع “لبنان الكبير” عن أمله في أن تتضافر الجهود داخلياً وعدم إدخال الملفات الاقتصادية والإصلاحية في مستنقعات السياسة لما لذلك من آثار سلبية على مسار النهوض الذي لم يعد جائزاً التأخر في السير به. واذ أشار إلى أن الوزارة تلعب اليوم لعبة البوليس والحرامي لناحية مراقبة الأسعار ومحاربة الفساد والاحتكار والغش، أكّد أنه لا يمكن الاستمرار في هذا النهج الترقيعي طويلاً، مع التشديد على أن الرقابة والمحاسبة تحمي المواطن وتردع اللصوص لا سيما وأن الحل يكمن في إنجاز الاصلاحات البنيوية. كما نوّه بإقرار قانون المنافسة الذي يُعدّ قانوناً إصلاحياً بامتياز سيخلق جواً ديناميكياً في الاقتصاد وسيكون بمثابة العمود الفقري وضابط الإيقاع لتحسين الأسعار نتيجة هيمنة المنافسة وتحسين البيئة الاقتصادية والتجارية.

أما لناحية قانون “الكابيتال كونترول”، فلفت سلام إلى أن مجلس النواب لا يريد اتخاذ هكذا قرار غير شعبوي على أبواب الانتخابات النيابية حتى أنه لم يفتح المجال لفريق العمل برئاسة نائب رئيس الحكومة لتوضيح أهمية إقراره كشرط مسبق للوصول إلى الاتفاق النهائي، معتبراً أن عدم إقراره سيبقي على حالة التفلت والاستنسابية في التعاطي من قبل المصارف لأنه لا يوجد أي قانون يردع تصرفاتها خاصةً وأنها لا تزال قادراة على اتخاذ القرارات التي تريدها. وشدد على أهمية إعادة هيكلة المصارف لأنه لا استمرار للاقتصاد من دون وجود هذا القطاع. ورأى أن موازنة العام 2022 والتي واجهت انتقادات عديدة هي موازنة استثنائية ولا يمكن السير بها من أجل النمو إنما وُضعت لكي تعالج ظرفاً دقيقاً لدولة متعثرة مالياً واقتصادياً، معتبراً أن كل الخيارات كانت صعبة وأن الانتقاء بين أهون الشرين هو السياسة المعتمدة.

وفي الآتي نص الحوار:

*نبدأ من إقرار قانون المنافسة، كيف سينفذ وما هو تأثيره على القطاعات الانتاجية؟

– هذا القانون كان عملاً ناجحاً بامتياز وهو الإصلاح الاقتصادي الوحيد الذي صدر في عهد هذه الحكومة، فالقانون الذي وُجد في لبنان منذ أكثر من خمسة عقود لأسباب استثمارية كان لبنان بحاجة إليها من أجل استقطاب أنواع معينة من الشركات والوكالات والتجار، إلا أن المرحلة اليوم أصبحت تتطلب إلغاء الوكالات الحصرية وتطوير قوانين المنافسة وتعزيزها حماية للاقتصاد وإتاحة لفرص الاستثمار والعمل أسوة بدول العالم كافة. إقرار القانون مرّ بمشوار تاريخي بحيث لم تستطع أي حكومة سابقة المضي به، حتى الرئيس الشهيد رفيق الحريري عمل جاهداً من أجل تمريره عبر مجلس النواب ولكن تم رده ليُصبح بعدها رهينة للمناكفات السياسية. غير أن ظروف البلد في هذه المرحلة كانت تتطلب هذا الإصلاح التشريعي الاقتصادي، بالتوازي مع ضغط من صندوق النقد الدولي ومن منظمة التجارة العالمية بضرورة أن يكون للبنان قانون منافسة محدد يفتح الباب أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة للدخول في السوق، وهذا يمنح نفحة أمل بالقطاع الخاص وسينعكس حكماً إيجاباً على الاقتصاد اللبناني لناحية المنافسة على الجودة من أجل استقطاب الزبائن وانخفاض الأسعار بنسب تصل بحسب الدراسات العالمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الأمم المتحدة وكل الهيئات الاقتصادية) إلى ما بين 20 و40 في المئة وفقاً للمعايير العالمية.

*هل هذا القانون حكر على القطاع الخاص أم يشمل القطاع العام أيضاً؟

– القانون الذي أصبح نافذاً وفي طور إعداد المراسيم التطبيقية وتشكيل اللجنة المنوطة صونه وإدارته، ليس فقط رفع الغطاء عن الوكالات الحصرية للقطاع الخاص كون هذه الوكالات لا تزال موجودة في النظام التجاري لكنها لن تحظى بحماية الدولة بعد الآن، بل ستُترك هذه الآلية للتجارة الحرة والعلاقة بين الشركات الأجنبية والتجار اللبنانيين حصراً. ويبقى الأهم من هذا كله النقلة النوعية في ما يتعلق بالقطاعات الحيوية (قطاعات البنية التحتية)، لا سيما وأن القانون لم يرفع الوكالات الحصرية أو احتكارها من قبل القطاع الخاص وحسب، إنما في القطاع العام أيضاً الذي كانت الدولة وحيدة تحتكر القطاعات الحيوية فيه وتُديرها وتنظمها وتستثمر بها وتستفيد منها كقطاع الكهرباء، المياه، الاتصالات، الطيران المدني وكازينو لبنان. أما اليوم، وبموجب هذا القانون فأصبح يحق لكل شركة في القطاع الخاص أو لأي مستثمر أجنبي أو محلي الاستثمار في هذه القطاعات الحيوية، وهذا بعث برسالة إيجابية الى المجتمع الدولي والمستثمرين بأن لبنان جدي لناحية الشراكة بين القطاعين الخاص والعام متمثلاً بما يُسمى الـ Public Private Partnership (PPP) ومشاريع الـ Build Operate and Transfer (B.O.T) ، كذلك للمغتربين من أجل الاستثمار في البنية التحتية والمساهمة في بناء بلدهم وأن يكونوا شركاء في إعادة الإعمار وتحسينه وهذا هو جوهر قانون المنافسة.

* لماذا أعلنت الدولة إفلاسها وامتنعت عن سداد ديونها من اليوروبوندز من دون أي خطة اقتصادية تخفف من أعباء هذه الخطوة؟ وهل كنت من مؤيدي التخلف عن السداد بهذه الطريقة؟

– كنت ضد هذه الخطوة بشكل كامل، إذ كيف لدولة لا يمكن لها أن تُسدد ديوناً بقيمة 1،8 مليار دولار أن تنخرط في برنامج دعم تصرف خلاله ما بين 10 و15 مليار دولار في عام واحد؟ خاصةً وأن تداعيات هذا التخلف ضربت الثقة بلبان كاقتصاد وكنظام مالي، إذ لم تعد هناك مصداقية وتم تشويه ملاءته الاقتصادية والمالية. ومنذ ذلك الحين ولبنان لا يزال عاجزاً عن إعادة الثقة به أمام المجتمع الدولي والدائنين والمستثمرين التي فقدت نهائياً. فالتعثر كان يتطلب مفاوضات مسبقة مع الدائنين تعمل على جدولة الديون وإعادة خفض الفوائد كي يتم تفادي هذا القرار، غير أن حكومة لبنان لم تعمد إلى ذلك واتخذت قراراً غير مبرر استنزفت بعده أموالاً طائلة.

*عدم إقرار قانون “الكابيتال كونترول” أطال أمد الأزمة وجعلها أكثر تعقيداً، لماذا المماطلة وعدم إقراره منذ عامين؟

إن انعكاسات قرار التخلف عن سداد الديون تزامن مع عدم المضي قدماً في قانون “الكابيتال كونترول” الذي كان لا بد من إقراره منذ سنتين ونصف السنة، خصوصاً وأن هكذا قانون لا بدّ من فرضه في الساعات الأولى من وقوع الأزمة من أجل منع تهريب الأموال إلى الخارج وحماية أموال المودعين وهو حق يصونه الدستور والنظام المالي والمصرفي. كما أنه يحمي المصارف من الدخول في نزاعات ودعاوى قضائية خارجية وداخلية مع المودعين من أجل سحب أموالهم. اليوم، هناك حالة من الفوضى بسبب عدم إقرار قانون “الكابيتال كونترول” الذي يضع الاطار اللازم لحماية الأموال، بحيث خسر المودعون جزءاً كبيراً من أموالهم بسبب هذا التفلت. وانطلاقاً من هنا، تعود ردة فعل المودعين على هذا القانون إلى انعدام الثقة لاسيما لناحية التعاطي الاستنسابي في عمليات التحويل والتهريب، فالشارع اللبناني لن يتقبل الآن وبعد كل الأخطاء التي حدثت أن يُطبق هذا القانون بشكل مفاجئ على ما تبقى من أمواله على الرغم من أنه أحد شروط صندوق النقد الدولي، وهو قانون ضروري لوقف المزيد من التدهور، وذلك بسبب غياب الوضوح والشفافية في التعاطي مع المودعين وعدم إدراكهم بشكل واضح وفهمهم لماهية هذا القانون ومدى أهميته. لست مع اعتبار “الكابيتال كونترول” استيلاءً على ما تبقى من أموال المودعين، فهذا المفهوم غير صحيح ويجب عدم مقاربته بهذا الشكل قبل الانتخابات من أجل كسب مزايدات شعبوية، بل كان على عاتقهم مسؤولية إقراره منذ بدء الأزمة وليس رفضه في الوقت الذي يتم فيه الاتفاق مع صندوق النقد الدولي من أجل وضع القطار على السكة الصحيحة. الشارع متأجج، ومجلس النواب زاد من حدته، وبالتالي فإن هذا الملف تأجل إلى ما بعد الانتخابات النيابية، علماً بأن الصندوق قد يقبل أن تنفذ بعض الشروط المسبقة التي طالب بها من أجل الاتفاق النهائي خصوصاً قانون “الكابيتال كونترول” الذي لن يمانع انتظار المجلس النيابي الجديد لإقراره. بنظري عدم إقراره كان قراراً غير صائب وفيه التباس وسوء نية. لم يكن هناك أي مبرر مشروع لامتناع الدولة عن ذلك، بل كانت هناك مسؤولية على الجميع بأن يُقر فور إعلان الحكومة التخلف عن سداد اليوروبوندز.

*هل يحمي قانون “الكابيتال كونترول” المصارف وهل يمكن فعلاً إعادة هيكلة الديون؟

– معظم المصارف خسرت رأسمالها وبالتالي فإن هذا الاتهام ليس دقيقاً، المطلوب اليوم حماية أموال المودعين وتعامل المصارف بوضوح معهم بعيداً عن سياسة الاستنسابية. لا أوافق مطلقاً على النهج الذي اتبع لجهة حجز الأموال بهذه الطريقة من دون أي قانون واضح حينها، الأمر الذي فتح الباب أمام صدور التعاميم المتلاحقة من مصرف لبنان. وعلى الرغم من سحب المودعين أموالهم على سعر صرف 3900 ومن ثم 8000، إلا أنهم خسروا جزءاً كبيراً منها. اليوم، يمر لبنان بوقت صعب في ظل تدهور اقتصادي حاد وانهيار للعملة وتآكل في القدرة الشرائية وعدم توافر الأموال في الدولة وتراجع هائل في الاحتياطي الإلزامي، وبالتالي أصبح الانتقاء بين أهون الشرين هو السياسة المعتمدة لأن كل الخيارات كانت صعبة. لهذا فإن إعادة هيكلة الودائع يتطلب النهوض مجدداً بالاقتصاد وعدم تدمير القطاع المصرفي لأنه لا يمكن له البقاء والصمود من دونه.

*ما هو المنتظر من خطة التعافي ولماذا التوجه إلى صندوق النقد؟

– تتشكل خطة التعافي من كل ما يطلبه صندوق النقد الدولي لناحية إقرار قانون “الكابيتال كونترول” وكيفية حماية أموال المودعين الصغار والكبار، إعادة هيكلة المصارف، تعديل قانون السرية المصرفية خاصة لموظفي القطاع العام من أجل مكافحة الفساد، إقرار الموازنة العامة، وهي جميعها مطالب ضرورية لا يمكن تجاوزها وهي التي ستؤدي إلى التعافي الاقتصادي. التوجه نحو الصندوق ليس من أجل المليارات الثلاثة أو الأربعة التي سيمنحها، علماً أن هذا المبلغ كان يصرفه لبنان في أشهر قليلة، بل من أجل إطار العمل والخطة الاقتصادية التي ستكون بمثابة خارطة طريق للسنوات المقبلة. آمل السير بالشروط المسبقة مع المجلس النيابي الجديد واستكمال عمل الحكومة من أجل الوصول إلى صياغة الاتفاق النهائي مع صندوق النقد لأنه من دون هذا الاتفاق سيدخل لبنان في مرحلة دقيقة وأكثر صعوبة وستبقى الثقة الدولية غائبة ولن يكون هناك أي من الاستثمارات أو المساعدات المالية.

*ما هو الإصلاح الأصعب الذي سيواجه لبنان؟

– أنا وزير إيجابي وأرفض المستحيل، وفي حال توافر النوايا الحسنة والعمل الوطني، فإن لبنان قادر على تحقيق المعجزات خلال سنة أو سنتين، شرط أن يعمل كل الفرقاء السياسيين على انتشاله مما هو فيه اليوم. لا بد من وجود النية والإرادة السياسية من دون إغفال العوامل الإقليمية التي تؤثر على البلد، لكن يبدو أنها على بوادر حلحلة ومن الممكن أن تخلق جواً من الاستقرار. الا أن الأهم أن ندرك داخلياً ضرورة صون الوضع الاقتصادي الداخلي وأخذ قرارات جريئة تسهم في إنقاذ البلد. التحديات الإصلاحية تُصبح جميعها صعبة إذا أدخلت في التجاذبات السياسية والمحاصصات التي لم يعد لها أي قيمة بعدما خسر لبنان كل شيء.

*هل مهمة لبنان مستحيلة؟

– يمكن للبنان أن يتعافى وهو ليس بلداً مفلساً ويمتلك مقومات مهمة والعديد من الممتلكات والأصول والعناصر الاقتصادية بفضل موقعه الجغرافي لأن المستقبل للغاز والدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط ولبنان في وسط كل هذه الإيجابية. فإذا توافرت النية الصادقة، كل القوانين الصعبة والهيكليات المصرفية يمكن حلها بسهولة، خصوصاً وأن لبنان قائم على العلم والمعرفة ويمتلك خبرات هائلة ورأسمالاً بشرياً قادراً على إخراج البلد من أزمته في حال تأمن له الاتفاق والتوافق الداخلي.

شارك المقال