إنتخابات أكبر من محليتها

علي نون
علي نون

في لبنان انتخابات! والرواية جدّية وشاغلة المعنيين بها الى حدود قصوى… وكأنهم في سياق السعي الى المشاركة في السلطة في بريطانيا العظمى مثلاً! أو شقيقاتها الأوروبيات النائمات والصاحيات على وقع أحكام دولة القانون بكل تفاصيلها وعناوينها وأطرها وأشخاصها!.

لكنها في مكان افتراضي ما تُسمّى انتخابات. وتوضع من أجلها وفي سبيلها قوانين، وتتخذ إجراءات. ويروح كثيرون الى اللعب فيها باعتبارها كل شيء، ولا يستأهل العمر أي فخر من دونها… بل هي في ناحية بعض المشتغلين الحزبيين والسياسيين المخضرمين والجديين، تقارب المصير قولاً وفعلاً! وتحدد الأوزان والأحجام وتضع ثقلاً تشريعياً سلطوياً لكل موقف “مصيري” في لبنان! ثم هي في ناحية المستجدين في الصنعة، باب لا مثيل له لبناء حيثية سياسية وشخصية خاصة لا بدّ منها للرسوخ في “تاريخ” البلد الصعب!.

وهي في شكل الأداء والعنوان إنتخابات! لكنها تحت السطح تبدو شكلاً من أشكال الحياة السياسية المعطّلة أصلاً، والملتبسة في كل حين، وغير المؤثرة في الملمات التشريعية والتنفيذية وغيرها الكثير من تعابير السلطة ومراتبها وأشكالها. وأكثر من ذلك بقليل: هي فولكلور مترف في زمن قاحل! وهواية شائعة في أزمان جدّية وثقيلة الوزن! ويمكن الجزم بأنها جزء من التراث الوطني الأليف والأثير… لكنها ليست أكثر من ذلك! أي أنها تستعاد باعتبارها التاريخي ذاك: تقليد حاضر لما جرى ماضياً لكن من دون ذلك الماضي! ومن دون مناخاته ولا “ظروفه الموضوعية” ولا أشخاصه بطبيعة الحال! والمعنى هنا يطال السيرة حكماً طالما أن أصحابها طواهم الزمن وغيّبهم الموت وصاروا مادة التذكار وليس التكرار!.

ولا مرّة في تاريخ لبنان الحديث، كانت هذه الطقوس السلطوية على هذا القدر من التردّي والالتباس وفقدان المعنى والمبنى والتأثير والتقرير… تبقى في مكانها فيما لبنان صار في مكان آخر! وتبقى عنواناً من عناوين نظام فقد صيته وتغرّب عنه! هي اليوم بمعنى أصح، تعبير صوري عن جسم مفقود! وعن دولة ليست واضحة! وعن دستور غير مُعتمد! وعن قوانين غير مقدّرة ولا مُحترمة ولا يُعمل بموجبها في الأصل والأساس… ومع ذلك يدبّ الجميع باتجاهها باعتبارها نقيضاً لكل ذلك الفراغ العميم! ويشاركون فيها بهمّة انطلاقاً من افتراضات أكثر غرابة مما سلف!.

يمكن التشاوف بتلك الممارسة التصويتية اذا ما جرى وضعها في سياق منطقي بعض الشيء، أي خارج الجسم الذي تلبسه هذه الانتخابات تحديداً! كأن يُقال مثلاً وليس حصراً إنها تجري لتحديد أوزان وأحجام ممثلي القوى المشاركة فيها داخل طوائفهم حصراً… وليس داخل النظام وسلطاته! ولا للعب دور في صناعة قراراته! ولا لمراقبة أداء السلطة التنفيذية (وهذه مزحة طويلة العمر) ولا الانخراط في تدبيج تأسيسي لتشريعات الشأن العام، بل تلقف المشترك الهامشي منها والمشاركة في وضعه أو تعديله! وبهذا المفهوم يمكن حينها الزعم بشيء من الاحترام للديموقراطية المدّعاة، ولما بقي من عناوين جامعة تحت سقف الدولة. بل يمكن الزعم بأن الفارق حصل ويحصل بين الاستفتاءات والانتخابات! مع أن الجامع المشترك بين الطقسين هو انعدام وزنهما في لبناننا العزيز هذا!.

ومع ذلك، يرى كثيرون ما لا يُرى ويدبّون الصوت في كل صوب من أجل المشاركة في الاقتراع لأنه في حسبانهم سيؤدي إلى نتيجة من إثنتين: إمّا شرعنة غلبة السلاح غير الشرعي على الدولة وامّا كسر ذلك المسار! والأمران في واقع الحال لا ينتجا حلاً لتلك المعضلة العويصة ولا يغيرا في حقيقةً الشر اللاحق بلبنان! والمجادلة هنا ممكنة وواقعية: لم يُبنَ النفوذ الايراني عندنا من خلال صناديق الاقتراع ولا ينتهي من خلالها. ولم يرسّخ حزبها حضوره عبر المؤسسات الدستورية والشرعية ولا يتضعضع بواسطتها، بل العكس هو الصحيح تماماً… والجميع داخلياً وخارجياً، يعرفون حقيقة مواقف الجماعات اللبنانية إزاء هذا الواقع ويعرفون أكثر أنها مواقف واضحة سلفاً وليست بحاجة الى تثبيت يتم من خلال الانتخابات! لكن تتمة المجادلة هذه تفيد بأن شرعنة غير الشرعي وقوننة غير القانوني مسألة كبرى ويُحسب حسابها في كل حين. والفارق كبير بين نفوذ يؤخذ بواسطة السلاح وآخر يؤخذ بواسطة صندوق الاقتراع، مع أن لبنان اليوم أسير في الحالتين، ولا يُفكّ أسره بقواه الذاتية ومن ضمنها برلمانه العتيد! وبالتالي يصحّ الافتراض بأن مقاربة الانتخابات هذه المرة تتم وفق بعد خارجي أكبر من ذلك الداخلي، ووفق حسابات اقليمية ودولية مطلوب من اللبنانيين أن يحسنوا الحكم عليها وفهمها والتصرف في ضوئها… إدعاء ايران بأن محورها “المقاوم” امتلك أكثرية في مجلس ٢٠١٨، عنى مساراً من التردي يدفع الجميع أثمانه اليوم! واحتمال تكرار ذلك الإدعاء في مجلس ٢٠٢٢ سيعني تمديداً لذلك التردّي بغضّ النظر عن مواقف ثلاثة أرباع اللبنانيين المعارضين والمتضررين من سياسات ايران وحزبها المحلي!

شارك المقال