بين الأرض والبحر: ذوبان الهوية ووحدة الانسان

حسناء بو حرفوش

بين ثقافة الحرب والسلاح وثقافة السلام، قصص كثيرة تكتب على الدروب، بين الوديان والجبال الوعرة وعلى رمال البحر قبل أن تمحوها المأساة… مأساة لا تعرف جنسية ولا ديناً ولا لوناً، يختبرها شعبان يحملان الهموم عينها وينطلقان من المحطات نفسها. وتتقاطع السرديات حول رحلات العبور لتصب عند المنعطفات نفسها بغض النظر عن الأوراق الثبوتية التي غالباً ما تتآكلها الأمواج الجارفة لتمحو كل انتماء عرضي ولا تبقى سوى الهوية الانسانية.

لقد تعايش اللاجئون السوريون مع أقسى أنواع العذابات قبل أن يحطوا ما بقي لهم من رحال في لبنان في منازل امتدت أسسها في المياه الاقليمية الهادئة طوراً والهائجة أطواراً. ولا يمكن للقارئ عن مأساة اللبنانيين بالقرب من سواحل جزيرة قبرص المجاورة إلا الربط بين رحلات العبور المتعددة التي عرفها السوريون وتلك التي خاضها اللبنانيون وتينك التي يختبرها الاثنان معاً في هذه الظروف الصعبة. 

رمزية العبور

البداية تعيدنا إلى بدايات المأساة السورية ومحاولات اللاجئين البحث عن الأمان والحلم بغد أفضل من خلال رحلة عبور على مراكب الخوف. لقد احتلت قصص هؤلاء رفوف أكثر الكتب مبيعا وتربعت على عروش الجوائز. ولكن على أرض الواقع، بقيت أجساد الكثيرين منهم في بطن البحر بعد أن قلبت صفحة الأمل مثقلة بالشعور بغياب العدالة والغدر. تذكرنا هذه السردية بأحد الكتب لصحافي ألماني هو وولفغانغ باور ينضم فيه متخفياً الى مركب صغير يحمل عشرات اللاجئين السوريين وملايين الآمال المعلقة في البحر مع محطات لا تنتهي بين سوريا ومصر وليبيا وإيطاليا والسويد وألمانيا. وتتكرر القصة نفسها اليوم مع تواتر رحلات “الهروب من الجحيم اللبناني” بحثاً عن عالم أفضل. فتنطلق المراكب تحت جنح الليل محملة بلبنانيين وسوريين وأحياناً بركاب من جنسيات أخرى من ضمن المغتربين المقيمين في البلاد. ويكتسب البحر رمزية بحد ذاتها، إذ هو المكان الذي يختصر الكون بأكمله في أمتار قليلة. في ذلك المكان، يمضي الوقت ثقيلاً والخوف رفيق الرحلة. تجمد الدماء في العروق وتضيع النظرات في الأزرق الكبير.

ما هويتك؟

على مراكب الموت، أي فرق قد يحدثه جواز سفر أو بطاقة هوية؟ بحسب شهود اختبروا التجربة بتفاصيلها، هوية راكب الأمواج الغدارة وضحية الاحتيال، لحية سميكة أنهكها هواء البحر وحرارة الشمس وروائح قذرة بسبب العجز عن الاستحمام والأمراض المنتشرة والأقدام الحافية غالباً من فرط التعب. في هذا العالم الذي يستبدل الأرض المهتزة أمنياً واجتماعياً، يجتمع لبنانيون وسوريون باعوا أغلى ما يملكون واشتروا به الحلم… حلم يتهادى مع الموج النهاري ويصفع بصقيع الغروب على مدى أيام تنتسى فيها الأرقام وتذوي فيها العزيمة إلا لمن حمل تذكرة حياة بروح طفل صغير اشتد عليه الغثيان أو آلمه العطش والجوع. الهوية تتلاشى أمام غريزة البقاء وأمام وحدة المعاناة والرداء… الرداء الأكثر ثقة والضمانة الأكبر بمواجهة كل الخوف… سترة النجاة.

يتحول الراكبون الى أرقام بسترات نجاة فإما ينجحوا في العبور سوياً وإما يرحلون مخلفين وراءهم سترات نجاة عائمة تستخدم فيما بعد للتقريب قدر الإمكان من العدد الدقيق للضحايا. كما يتحول الراكبون بغض النظر عن الجنسية الى رهائن. رهائن مرة واثنتان وثلاث وعشر… لا ينتهي الرهان على حياتهم طالما أنها تشكل مصدراً للرزق. يركز كتاب باور على غرار غالبية السرديات على تجار البشر والمهرّبين الذي يرفعون السعر كلما غاصوا في أعماق المحيط واشتد الخطر وصولاً الى طلب أكثر من 6 آلاف دولار للراكب الواحد. وبعد ذلك كله، قد تأتي سفينة لتأخذ المهرّبين وتترك المهاجرين في عمق البحر وحدهم بلا أي نور ولا معدات… بانتظار معجزة أو بانتظار الموت، أو ربما حتى بمواجهة الانتقام. في سردية باور، يفقد كثر حياتهم غرقاً بعد أن يقرر المهرّبون إغراق مركبهم في حال عدم الحصول على الأموال المطلوبة.

آخر الموجات التي ضجّ بها الإعلام حملت أشقاء لبنانيين وسوريين من شمال لبنان في رحلة ذل وعودة للفقر بعد بيع أثمن الممتلكات من مجوهرات وسيارات وأثاث المنزل وحتى الاستدانة لتأمين تكاليف رحلة “الهروب” التي انتهت خلف القضبان. 

حكاية لبنانية وسوري

سامية ابنة الشمال اللبناني خسرت على أحد مراكب الموت زوجها السوري الجنسية والذي غادر بحثاً عن الحياة الكريمة ولقمة العيش. بالنسبة اليها، ليس ما حصل رحلة مأساة بقدر ما هي قصة بطولية. على مراكب الموت، الهوية واحدة فإما ناج وإما ضحية. وما بين أمواج الوقت المتلاطمة الكثير من التعاضد والتضحية. تروي سامية: “ما زلت أسمع الكثير من الحكايا عن ذلك المركب. لقد أفقدتني رحلة الرعب هذه زوجي ولكن لا أحد قادر على حرماني مما بقي منه: الفخر. لقد أعان كثراً ممن كانوا على ذلك المركب. اقتصدوا في الماء ليكفي حاجة الجميع ولما اشتد العطش شربوا من ماء البحر. الأطفال يأتون أولاً ومن ثم الكبار. لم يوفر جهداً ليساعد أحداً وفقد حياته في البحر وهو يكافح لإنقاذ غيره من الغرق”.

سامية وزوجها قصة تذكر بالروابط القوية التي تجمع بين اللبنانيين واللاجئين السوريين وتترجم بالزواج، وعلى الرغم من أن صفحة هذا الزواج أغلقت على حدث مأساوي، إلا أن كتاب الوحدة لم يحترق. تحتفظ سامية بقصة علاقتهما كشاهد على أن الجنسية لا يمكن أن تشكل قيداً.

العالم أمام مسؤولياته

موجات الهجرة عبر البحر ومراكب الموت أكثر فصاحة من أي كلام. أكثر من 200 ألف شخص ركبوا عباب البحر بحثاً عن أحلامهم في أوروبا، في العام 2014 وحده، والأرقام أكثر رعباً في هذه الأوقات خصوصاً مع صعوبة إحصاء عدد من رحلوا واختصاره مع الأسف بعدد الجثث المسترجعة من البحر. في سردياته، حاول باور رفع الصوت لوضع العالم أمام مسؤولياته من خلال التركيز على التجربة التي أثبتت على مر السنوات أن القيود التي تفرضها الدول وممارسات خفر السواحل لن تردع موجات الهجرة التي تهدد بالمزيد من الضحايا. وهذا ما يحاول فعله الصحافيون العرب بدورهم من خلال تسليط الضوء على مختلف التجارب وعلى اختلاف المقاييس في التعامل مع تجربة كل فريق وهو أمر يستحق التوقف عنده في مواضع ثانية.

وعلى الأرض اللبنانية تثبت التجارب يوماً بعد يوم بحلوها ومرها أن اللبنانيين والسوريين يتجرعون الكأس نفسها وهذا ما يستدعي مضاعفة الجهود وزيادة التعاضد الإجتماعي. ففي النهاية، ألسنا جميعاً في هذه الظروف على متن مركب كبير تصفعه أمواج بمسميات عدة، فموج الجائحة وموج غياب العدالة وموج الجوع وموج الحروب العاصفة وموج الخوف وسواه؟ أمام كل هذه الأمواج، حري بالانسانية وضع اليد باليد أقله على أمل انتهاء العاصفة وبزوغ شمس الأمل…

شارك المقال