“حزب الله” الجريح… الطاعة والا!

أنطوني جعجع

في قراءة أولية لحصاد العملية الانتخابية في لبنان، لا بد من السؤال: ماذا اختار اللبنانيون من بين كل الخيارات؟ ومن اختاروا من بين كل القيادات؟

الجواب يتفاوت بين احتمالين وفق مراقبين محليين يؤكدون أن شريحة كبيرة من الناخبين اللبنانيين تميل الى من يرتدي “بزة” عسكرية، ومراقبين دوليين يؤكدون أن شريحة أخرى منهم تميل الى الانفتاح والتغيير والعلمانية كبديل عن حكم الأحزاب والتيارات والطوائف…

وانطلاقاً من هذين الاحتمالين، يمكن القول ان الانتخابات أفرزت قوتين لا تتشابهان لكنهما لا تستطيعان التأثير في صنع القرارات الكبيرة من دون تعاون وتنسيق بينهما يمكن أن يصلا في بعض المرات الى حدود التحالف القسري أو ما يعرف بزواج القوة.

هاتان القوتان هما “القوات اللبنانية” التي استعادت ظاهرياً “البزة الخضراء” لاستعادة شارعها من “التيار الوطني الحر”، والمجتمع المدني الذي استعاد صورة “الوطن الجميل” في مواجهة “الوطن – المسخ” الذي صنعته المنظومة الحاكمة غداة اتفاق الطائف.

ومن غرائب الصدف، أن ميشال عون الذي أقام شعبيته على ماضي سمير جعجع، عاد فخسرها لمصلحة قائد “القوات اللبنانية” الذي بنى انتصاره السياسي الأخير على ركام هيبته التي أخذت في طريقها مستقبل صهره النائب جبران باسيل.

ومن غرائب الصدف أيضاً، أن يشق المجتمع المدني طريقه بين ألغام “حزب الله” من جهة ومعوقات “القوات اللبنانية” من جهة ثانية، ومقاطعة تيار “المستقبل” من جهة ثالثة، وأن يفرض نفسه قوة واعدة يراهن عليها المجتمعان العربي والغربي في اطار السعي الى لملمة الأشلاء اللبنانية التي تناثرت من شواطئ البحر المتوسط الى شوارع طهران.

وما كان يخشاه “حزب الله” بعد فشل العصب الايراني في الانتخابات العراقية الأخيرة، عاناه في الانتخابات اللبنانية التي أسقطت عقدة الخوف من سلاحه ورجاله، مع اضافةٍ لم تكن في الحسبان، وهي تعثر مفاوضات فيينا مع الأميركيين، واشتعال الشارع الايراني في ما يعرف بـ”ثورة الخبز”، الأمر الذي دفع النائب محمد رعد الى محاولة ترويع البرلمان الجديد بعدما أدرك السيد حسن نصرالله أنه خسر “حرب تموز” السياسية، وأن الأسوار التي نصبها حول بيئته الموصدة قد أصابها بعض الخلل.

وأكثر من ذلك، يعرف “حزب الله” أنه خسر على ثلاث جبهات متوازية، الأولى على جبهة “التيار الوطني الحر” التي لم تعد قادرة على توفير الغطاء المسيحي اللازم بالزخم نفسه والشعبية نفسها، والثانية على جبهة الخط السيادي – المدني الذي لا يبدو هذه المرة مستعداً لتقديم أي تنازلات أو تسويات تفرض عليه بالقوة بعدما انتقل من الشارع الى الدولة، والثالثة فقدان الكلمة الفصل في الخيارات التي تعني لعبة التشريعات في المجلس الجديد، وفي تسميات رؤساء الوزراء وفي تسمية رؤساء الجمهورية وفي الخيارات الوطنية الكبرى.

ولا يبدو “حزب الله” وحيداً في هذا المأزق، إذ لا يبدو حزب “القوات اللبنانية”، على الرغم من التمدد الشعبي والسياسي اللافت على مستوى الخارطة اللبنانية، في وضع يسمح له بصنع القرارات الكبيرة من دون تنسيق مع نواب “السابع عشر من تشرين”، تلك الثورة التي تخوف من أن تأكل من صحنه الشعبي، ومن دون مصالحات أو تفاهمات مع حزب “الكتائب” والنواب السياديين المستقلين، اضافة الى عدد يعتد به من النواب السنة الذين باتوا في وضع “القوة الثالثة” التي لا يديرها الرئيس سعد الحريري حصراً ولا القوة المتوحدة في أسوأ الأحوال والمنسجمة في أفضلها.

وتنبع هذه الصعوبة في شكل لافت من تعرضه لنكسة لم تكن في حساباته، في عرينه التاريخي، أي في منطقة بشري التي تمكن فيها خصمه الأشد خطراً على هيبته، أي وليم جبران طوق، من كسر الأحادية المطلقة التي تمتع بها على مدى أكثر من ثلاثة عقود.

وما ينطبق على جعجع، ينطبق على الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل، اذ فقد الأول آخر شعرة في هيبته، وخسر الثاني آخر فرصة لاستعادة شعبيته، وباتا الشريك الهزيل في حسابات “حزب الله” وخط الممانعة، والطرف الجريح في حسابات “القوات اللبنانية” والخط السيادي.

وفي اختصار، يمكن القول في حكم سريع لا متسرع، إن كل أركان البرلمان الجديد في وضع دقيق وحساس لا يحمل هزيمة مطلقة ولا نصراً مطلقاً، في وقت لفح هواء التغيير أرجاءه من الجنوب الى الشمال مروراً بالبقاع والعاصمة بيروت، وظللته عباءة العرب بعد سنوات من سطوة العمامة الفارسية.

وفي اختصار أيضاً، لم يعد في استطاعة “حزب الله” أن يقول: الأمر الوطني لي، وبات عليه أن يتقبل الشراكة بدل المكابرة. ولم يعد في استطاعة عون وباسيل أن يقولا: الأمر المسيحي لنا، وبات عليهما أن يعترفا بفشل العهد بدل البحث عن تبريرات وأسباب تخفيفية. ولم يعد في استطاعة أي قيادة سنية أن تقول الأمر السني لي، وبات على الرئيس سعد الحريري أن يعيد ترتيب البيت السني انطلاقاً من الحقيقة القائلة ان حسابات السياسة شيء ومزاج الناس شيء آخر، وان مجتمعه خارج البوتقة السنية العربية قد يكون مجتمعاً يتيماً في مكان وتائهاً في آخر.

وفي عودة الى السؤال الأول، يمكن القول ان “حزب الله” وحلفاءه تلقوا نصف هزيمة، لكنها موجعة، وان “القوات اللبنانية” حققت نصف الانتصار الذي حققه السياديون الآخرون، لكنه انتصار مقيد.

وحدها ايران تكبدت هزيمة كاملة، انضمت الى هزيمتها في بغداد، والى غليان شوارعها في طهران، وتعثر مفاوضاتها في جنيف، ومغامراتها العبثية في اليمن وخسائرها العسكرية في سوريا، اضافة الى انكفاء الدعم الروسي العالق في وحول أوكرانيا.

فهل تتقبل ما جرى في لبنان ولو على مضض، في انتظار تسويات من هنا أو تقلبات من هناك، أو تعمل مع رجالها في البرلمان اللبناني، ما عملته مع رجالها في البرلمان العراقي، أي لا رئيس ولا حكومة ولا سلام ولا سيادة، من دون فتوى من قم أو إذن من طهران…؟

ما قاله محمد رعد أضاء على ما في نيات “حزب الله”: اما الطاعة واما الانقلاب، فماذا في نيات النواب الجدد…؟

شارك المقال