حقل “كاريش”… حان وقت الحساب!

أنطوني جعجع

هل فعلتها اسرائيل وبدأت الحفر في حقل “كاريش”، على الرغم من تهديدات “حزب الله”؟ وهل يفعلها حسن نصرالله، فيذهب الى حرب في البحر، هي غيرها في حروب البر؟

وهل تقدم أي جهة لبنانية على مقاضاة الرئيس ميشال عون بتهمة التقصير أو الاهمال أو التآمر أو حتى “الخيانة العظمى”، وهو الذي تمنع عن اتخاذ اجراءات سيادية ادارية وقانونية وجغرافية انسجاماً مع قسمه الدستوري؟

انها لحظة الحقيقة التي تأخر ظهورها الى السطح أكثر من عقد من الزمن، واللحظة التي يجد كل طرف معني بها نفسه أمام خيارات حاسمة لا تقبل أي مماطلة من الجانب الاسرائيلي، ولا أي تهرب من الجانب اللبناني، ولا أي “تطنيش” من الجانبين الأميركي والأوروبي…

فالحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على مصادر الطاقة من غاز ونفط باتت الحكم الأساس على حلبة الصراع في “كاريش” وسواها من مواقع ملتبسة هنا وهناك، وما كان يتحمل الكثير من الصبر والمسايرة والنفس الطويل، لم يعد مقبولاً ولا مطلوباً حتى لو أدى الأمر الى مواجهات عسكرية قد يتورط فيها الجميع سواء بالواسطة أو وجهاً لوجه.

ويتفق الكثير من المراقبين، على أن تأخير لبنان غير المبرر في تثمير ثروته النفطية، وفي رسم حدوده البحرية مع كل من اسرائيل وسوريا وقبرص، أدى الى خلق مناخ محلي واقليمي ودولي لا يتعاطف كثيراً مع تقلبات الموقف اللبناني من جهة، ومصالح الأطراف المعنية التي تقاسمت الحقول النفطية العشرة واختلفت على الأولويات قبل أن تتفق على الضروريات من جهة أخرى.

ويتفق هؤلاء أيضاً على أن لبنان لم يقرأ جيداً الخارطة الاقتصادية العالمية، ولا الهجمة غير المسبوقة على أي مكان في العالم يضخ النفط والغاز، حتى لو اضطرت الدول الكبرى الى تحدي كل العراقيل الجغرافية واللوجيستية المحتملة لربط نفسها بما يمكن أن يمدها بالمادة التي لا تزال المصدر الأغنى للحركة الحياتية والاقتصادية في العالم.

وقد يسأل سائل، لماذا تمنّع الرئيس عون عن توقيع المرسوم ٦٤٣٣ الذي كان يمكن أن يلجم الأطماع الاسرائيلية في الثروة البحرية اللبنانية أو يمنع على الأقل وقوع أي حرب محتملة بين تل أبيب و”حزب الله”، وسط ظروف اقتصادية قاتلة وفراغات سياسية تلوح في الأفق على مستوى الحكومة العتيدة والرئاسة المقبلة؟

وهنا يطرح المراقبون أكثر من سؤال، هل فعل الرئيس اللبناني ذلك بناء على معلومات أو نصائح تلقاها من جهات مقربة منه؟ هل فعل ذلك لاقتناعه بأن ما يطالب به لبنان لا يدخل في اطار حقوقه الجغرافية قبالة المياه الاقليمية الاسرائيلية؟ وهل فعل ذلك، في اطار صفقة تقوم على مبدأ الغاز والنفط في مقابل الرئاسة للنائب جبران باسيل وسحب العقوبات الأميركية من سجله المثقل باتهامات الفساد وسواها؟

وأكثر من ذلك، لماذا سمح “حزب الله” بأن يصل الوضع الى ما وصل اليه، وهو الذي يسيطر عملياً على الجنوب، ويملك القرارات الوطنية الحاسمة داخل مجلس الوزراء والبرلمان وحتى القصر الرئاسي؟ هل كان ذلك بناء على واحد من أمرين: ان التأخير في البحر يسهم في مد سلاحه بمزيد من العمر الطويل كما هي الحال في البر، حيث تحولت شبعا الى ورقة مطوية تغلق حيناً وتفتح حيناً وذلك غب الطلب ووفق معطيات استراتيجية تمتد من بيروت الى طهران، والثاني أن الحرب ليست خياراً ضاغطاً، معتقداً أن اسرائيل لن تذهب الى الحرب وأن اميركا لن تسمح بذلك على الإطلاق؟

وما فات الرئيس عون ومعاونيه فات حسن نصرالله وحلفاءه، فهما لم يدركا أن المفاوض أو الوسيط الأميركي اليوم أو بعد اسابيع هو غيره بعد الحرب الأوكرانية في ظل أزمة محروقات ضاغطة باتت تهدد العالم الغربي بأشهر من التقنين الذي يمكن أن يضرب اقتصادها على كثير من المستويات والحقول.

وتفيد مصادر دبلوماسية غربية، ان واشنطن التي تبحث عن مصادر بديلة للنفط والغاز بعد حظرهما من روسيا، وبعد تبايناتها مع المملكة العربية السعودية، باتت تبحث عن مصادر طاقة من دولة حليفة موثوقة لا تتأثر بأي أجندات جانبية، وفي مقدمها اسرائيل التي ما كانت تتجرأ على التقدم نحو “كاريش” من دون ضوء أخضر أميركي مباشر، يساعدها في ذلك أن الفيتو اللبناني قد سقط قانوناً، وأن العالم سيقف الى جانبها إن لم يكن حباً بها فعلى الأقل حباً بما يمكن أن يمنع عنها أزمة حياتية هو في غنى عنها، وأن يضيق الخناق على روسيا، ويجعل ثروتها النفطية، ثروة محتجزة ومكدسة تماماً كثروة ايران بعد العقوبات الأميركية والدولية الخانقة.

وحيال هذا المشهد المعقد والقاتم، تتجه الأنظار الى “حزب الله” الذي يجد نفسه أمام واقع لا يقبل التهويل الكلامي وحسب، فاما يدخل الحرب بصفته حامي الحمى، واما يترك الأمر للمفاوض الأميركي ويصمت الى الأبد.

فما يجري في “كاريش”، ليس شبعا ولا تلال كفرشوبا اللتين يمكن أن تنتظرا الى ما شاء الله، وليس أمراً يمكن لاسرائيل الطامعة أن تتجاهله في ظل ظروف دولية مؤاتية قد لا تجدها في أي وقت.

وما يجري هناك، لا يختلف كثيراً عما يجري شمالاً قبالة السواحل السورية، مع فارق وحيد يتمثل في صمت رسمي لبناني، يسهم فيه “حزب الله”، وما يجري قبالة السواحل القبرصية، وسط خجل لبناني يصل الى حدود الشكوى الشكلية المتقطعة والموسمية.

انها الحدود السائبة التي لم تتجرأ سلطة لبنانية منذ الاستقلال على رسمها، اما خوفاً واما تقاعساً، والحدود التي كانت سبباً لتدفق السلاح والمقاتلين والمرتزقة قبيل اندلاع الحرب اللبنانية في زمن البندقية الفلسطينية، وسبباً لخروج أموال لبنان واحتياطاته الغذائية والنفطية في زمن البندقية الايرانية.

وبعيداً من كل ما تقدم، لا بد من أسئلة بديهية، ماذا يختار العالم بين استقرار لبنان وحاجته من الطاقة؟ وماذا يختار “حزب الله” بين الحرب والاعتماد على الوساطة الأميركية التي يمكن في الأيام المقبلة أن تتوصل الى تسوية تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله وتحفظ ماء وجهه؟ وماذا يختار الرئيس عون بين موقف قانوني فات الأوان لاتخاذه وموقف تصادمي لا يجد من ينصره في العالم الاقتصادي والاستراتيجي؟

حتى الآن، لا تملك اسرائيل الا أن تمضي قدماً في أعمال الحفر حتى لو أدى ذلك الى حرب مباشرة مع “حزب الله”، فهي تعرف أن الوقت الى جانبها، وتعتقد عن حق أو خطأ أن العالم لا يجد نفسه مضطراً الى الدفاع عن بلد ينام على ثروة نفطية هائلة، فلا يخرجها الى النور ولا يعرف كيف يرسم حدودها، ولا يقرأ جيداً في أحوال الكون بعد الحرب الأوكرانية.

اننا في الوسط، بين ثروة أمعن لبنان في هدرها منذ الاستقلال وتنبه اليها متأخراً، وبين عالم قلق نزع عنه ثوب الديبلوماسية وتحول الى ما يشبه عصر الاكتشافات والفتوحات، أو على الأقل الى عصر الغزاة الذين لا يقدمون المواثيق والأعراف على تدفق الثروات وضجيج المحركات.

لقد انتهى زمن “الولدنات” والعنتريات والصفقات والمحاصصات، فما كان في الأمس ترف الانتظار بات اليوم لحظة الخيارات الصعبة، وقد حان وقت الحساب في منطقة تغلي من أوكرانيا حتى ايران.

شارك المقال