“حزب الله”… نحكم معاً أو لا حكم

أنطوني جعجع

لم يعد “حزب الله” قلقاً أو متوتراً حيال نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، بعدما تأكد من وجود قدرة على تأمين غالبية كافية لاسقاط ما يريد إسقاطه وتعويم من يريد تعويمه…

فقد اختفت فجأة مقولة “لن تحكموا من دوننا” الى مقولة “سنحكم معاً” لكن بشروط، معتبراً أن السيطرة على مجلس وزراء من لون واحد غير ممكنة، اذا كان الأمر من حصته، وغير مقبولة اذا كانت من حصة سواه، أي المعارضة، وأن تجربة حسان دياب يجب ألا تتكرر، وأن أفضل ما يحفظ ماء الوجه هو الشراكة في تقاسم الفشل بدلاً من التفرد به.

وأكثر من ذلك، يرى “حزب الله” أن أفضل طريقة للسيطرة على الحكم هي إشراك الخصم في سلطة أو مركز قرار ويملك كل واحد من الفريقين حق النقض، مرة باسم المصالح المذهبية ومرة باسم الميثاقية، يساعده في ذلك واقعان جوهريان: اما حكومة توقيع تراعي مصالح الأحزاب والتيارات، واما حكومة ترقيع تحصر حجم الحريق بدل العمل على إخماده وفق ما بات يعرف بتدوير الزوايا.

وأكثر من ذلك أيضاً، يحاول “حزب الله” البحث عن شخصية سنية تمنحه غطاء كافياً، بعدما تأكد له أن الرئيس سعد الحريري بات خارج الصورة حتى اشعار آخر، متوجهاً صوب الرئيس نجيب ميقاتي، لا حباً به ولا اعجاباً بأدائه، لكن انطلاقاً من حاجته الى حيثية سنية مرنة، تملك ما يكفي من شعبية بعد صدور أحكام المؤبد من المحكمة الدولية ضد عناصر “حزب الله” المتورطين في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وتقول مصادر قريبة من “المقاومة الاسلامية” إن الأخيرة تحاول تمرير تجربة اللجان في مجلس النواب الى مجلس الوزراء، بعدما أدركت أن أحداً من أركان المعارضة تمنع عن مد اليد أو عقد الصفقات فوق الطاولة وتحتها لحجز مقاعد هنا وهناك، وبعدما تأكدت أيضاً أن النواب التغييريين ليسوا “البعبع” الذي دخل البرلمان للضرب شمالاً ويميناً، لكن الشريك الذي يريد كل شيء ولا يستطيع الحصول على شيء، وهو ما برز في عاملين أساسيين: التشرذم من جهة، والخلفيات السياسية التي تتفاوت بين معارضة انتقائية تصب في مكان وتنسحب في مكان آخر وتحديداً في ما يتعلق بموضوع خلافي عائم فوق السطح، وهو سلاح “حزب الله”.

وتضيف المصادر أن “نواب التغيير” لم يكونوا، حتى الآن على الأقل أكثر من أسماء جديدة حلت محل أسماء قديمة، مشيرة الى أنهم فقدوا زخمهم بسرعة قياسية وارتكبوا من الهفوات ما حوّلهم فجأة الى مجرد قنبلة صوتية لا أكثر ولا أقل.

اما في ما يتعلق بالكتل النيابية الأخرى، فلا يبدو الأمر أقل تعقيداً، وسط تنافس حاد وعلى المنخار بين “التيار الوطني الحر” الذي يراهن على بعض الطعون لزيادة حجمه، وتحديداً في ما يتعلق بالمقعد العلوي في عكار، و”القوات اللبنانية” التي تخشى أن تحرمها الطعون من نائبين أو نائب واحد في كل من طرابلس وجزين بحيث يصبح “حزب الله” أكثر اطمئناناً الى وجود غالبية مريحة، الى حد ما، بدل القلق من وجود غالبية “الصوت الواحد” القابل للتعديل هبوطاً في أي لحظة.

وانطلاقاً من هذا الواقع، تسعى قوى المعارضة الى تحقيق ولو الحد الأدنى من الوحدة، عشية استحقاقي الحكومة والرئاسة الأولى، ويحاول السفير السعودي وليد بخاري تشكيل جبهة سنية وازنة، تقفل الباب أمام أي غطاء سني يمكن أن يتسلل منه “حزب الله” ليصبح مرجعية وطنية متنوعة أو على الأقل مرجعية قادرة على الحكم عبر الميثاقية لا عبر السلاح.

والواقع أن “حزب الله”، يعرف تماماً أن الانتخابات لم تعطه ما أخذه في انتخابات العام ٢٠١٨، ويعرف أن ايران ليست في وضع مريح اقليمياً ودولياً وداخلياً، وأن وضعه هو بالذات بعد افتضاح ما كان خلف كواليس الحدود البحرية مع اسرائيل، وما يجري في سوريا والعراق واليمن في مواجهة اسرائيل وتركيا ودول الخليج والولايات المتحدة والدول الغربية وحتى روسيا، لا يعطيه القدرة على القيادة المطلقة أو على التحكم المطلق، خصوصاً أن أي حرب تقررها ايران في مستقبل قريب أو متوسط، لن تكون على الأرجح الا عبر “حزب الله” وعلى حسابه.

ومن هنا أيضاً، يمكن فهم إصرار “الشيعية السياسية” على حكومة وحدة وطنية، تواجه بها حروب الخارج بدلاً من حروب الداخل، وحكومة تستطيع من خلالها ادارة الدولة وفق حساباتها ورهاناتها، في حال فشلت في انتخاب رئيس يكون نسخة عن الرئيس ميشال عون أو ملحقاً له أو رئيساً يختلف عنه في الأداء لا في الولاء.

وازاء هذا المشهد، هل يمكن لـ”حزب الله” أن يحدد خارطة الطريق التي تبقيه في السلطة المباشرة وغير المباشرة، أربع سنوات نيابية وست سنوات رئاسية أخرى، أم أن الأمر بات في مكان آخر، أي في مكان لم تعد ايران في موقع يسمح لها بادعاء السيطرة على أربع عواصم عربية وهي العاجزة، عن السيطرة على شوارعها المنتفضة في مكان، وعلى حماية ضباطها وعلمائها وترساناتها وثرواتها في مكان آخر؟

وازاء هذا المشهد أيضاً، لا تبدو ايران في وضع يسمح لها بالرد على الضربات الاسرائيلية الموجعة في قلب طهران، ولا في وضع يحول دون ذلك، لأن الخيار الأول يعني الدخول في حرب غير متكافئة اقتصادياً وشعبياً وعسكرياً مع جبهة إسرائيلية – عربية – أميركية – دولية باتت على اقنناع بأن طهران تجاوزت كل الخطوط الحمر، والخيار الثاني يعني أنها ستجد نفسها في موقع تبدو نمراً بلا أنياب أو فاعلية واهنة لا تملك الا تقديم التنازلات الواحدة بعد الأخرى من اليمن الى البحر الابيض المتوسط.

هذه الحقيقة يعرفها “حزب الله” جيداً ويعمل وفق مسارها ومحاذيرها، محاولاً الوصول الى واقع آمن في الحد الأدنى، في انتظار ما تقرره الجمهورية الاسلامية سلباً أو ايجاباً.

فهل ينجح السيد حسن نصر الله في الحصول على الحكومة التي يريدها والرئيس الذي يريده، والبيان الوزاري الذي يريده؟

الجواب نعم، لكن اذا استطاع تعويم الحكومة الحالية وتعطيل الرئاسة الأولى، أو تشكيل حكومة ائتلافية وانتخاب رئيس حليف أو صديق، وهما أمران دونهما محاذير ومعوقات، اذ أن الساحة اللبنانية لم تعد خالية، ولم تعد ملعباً لفريق من لون واحد، وأن الانتخابات الأخيرة حوّلت لبنان الى ساحات أو ملاعب متعددة فتحت الباب لعودة الكثير من الجهات المؤثرة، وفي مقدمها السعودية التي وجدت الفرصة سانحة للحؤول دون سقوط مجموعة سنية وازنة في فم الذئب الايراني، تماماً كما هي الحال في سوريا والعراق واليمن وغزة، وأيضاً أمام الولايات المتحدة والعالم الغربي اللذين باتا ينظران الى لبنان ما بعد أزمة الغاز والنفط في أوروبا، كما لم ينظرا اليه من قبل.

انه في اختصار الصراع على لبنان لا الصراع من أجله، وهو ما يفسر أسباب “الوجه الناعم” الذي يظهره “حزب الله” الساعي الى ازالة ما يمكن من ألغام داخلية قد تحوّله الى قوة يتآكلها الصدأ كما هي الحال منذ حرب تموز أو الى كبش فداء تذهب به ايران اما الى الانتحار واما الى الاندحار ضمن سوق قابلة للبيع والشراء.

انه مشهد ملتبس وقاتم تجوز فيه كل أنواع التكهنات والتحليلات، لكن الثابتة الوحيدة التي لا تقبل أي جدل، تتمثل في أن الصراع على الغاز بعد حرب أوكرانيا تحول الى تسونامي يجرف كل ما يقف في طريقه، سواء كان دولة أو حزباً أو تياراً أو عائقاً جغرافياً أو أمنياً أو استراتيجياً.

ديبلوماسي غربي يختصر الوضع في لبنان والمنطقة عشية وصول الرئيس الأميركي جو بايدن الى كل من السعودية واسرائيل الشهر المقبل قائلاً: “ان كل ما يعلن هنا وهناك ليس الا ضرباً في الهواء، اذ أن ما يحمله سيد البيت الأبيض هو ما يرسم خارطة المنطقة، لا سلاح حزب الله ولا نوويات ايران”. وأكد أن النار تمشي في الفتيل المشتعل على مضض، وتنتظر واحداً من أمرين: اما إقفال المفاعلات النووية الايرانية وملحقاتها في المنطقة من دون ضربة كف، واما رد انتقامي من ايران يعطي اسرائيل وأميركا ما تريدانه لاحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير.

شارك المقال