ملابسات التكليف تعزز الفراغ والسياديون أمام اختبار الرئاسة

وليد شقير
وليد شقير

كيف يمكن للملابسات التي رافقت تسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة أن تنعكس على عملية التأليف نظراً إلى أن هذه الملابسات تركت تفاعلات ودلالات كثيرة؟

هذه الدلالات تبدأ بتفويت القوى السيادية والتغييرية سواء من الكتل النيابية الحزبية أو المستقلين فرصة اختيار الرئيس المكلف، واختبار قدرتها على تشكيل قوة وازنة في ما يخص التصويت بالثقة لمصلحة الحكومة المقبلة، إذا تشكلت، مروراً بتفويتها فرصة إثبات قدرتها على تشكيل أكثرية في انتخابات الرئاسة الأولى التي تبدأ دستورياً في الأول من أيلول المقبل، انتهاءً بإثبات مدى توحدها خلف رؤية واضحة حول البرنامج الإنقاذي من الانهيار الاقتصادي والمالي في البلد.

خسرت هذه القوى التي قيل إنها باتت الأكثرية في البرلمان بنتيجة الانتخابات النيابية، صفة الأكثرية نظراً إلى تشتّتها. وفضلاً عن ذلك فإن بعض هذه الكتل مارس القوة السلبية بانجرارها إلى نهج الاستنكاف حين انضم عدد وازن منها إلى مجموعات الامتناع عن تسمية رئيس للحكومة، وانزلقت بذلك إلى أسلوب يستخدمه خصومها، أي فريق 8 آذار بالمقاطعة والاستقالة بهدف التعطيل والعرقلة. وإذا حسمنا أصوات “تكتل لبنان القوي” و”التيار الوطني الحر” (16 نائباً) من مجموع النواب الذين لم يسموا أحداً لتشكيل الحكومة (46) يبقى 30 نائباً ممتنعاً عن التسمية، هم من السياديين والتغييريين والمستقلين المصنفين إما حلفاء أو قريبين منهم. بل أن ثلاثة من كتلة “التغييريين” كانوا من بين الممتنعين عن التسمية.

وفي وقت يعتبر بعض القانونيين أن من مارسوا لعبة عدم التسمية انزلقوا إلى مخالفة للدستور، لأن الاستشارات النيابية الملزمة التي ينص على أن يجريها رئيس الجمهورية من أجل تسمية رئيس الحكومة، لا تسري على الرئاسة فقط، بل على النواب أيضاً، فإن هذا الانزلاق يبرّر لفريق الممانعة لعبة تعطيل البرلمان (بالثلث المعطل) في انتخابات الرئاسة، التي مارسها عام 2007 بانتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، ثم عام 2014 بانتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان (واستمرت حتى خريف العام 2016) بانتخاب العماد ميشال عون. لكن الأمر الأكثر إثارة للتساؤل هو ما إذا كانت العودة إلى آفة الثلث المعطل سواء في الحكومة أو في البرلمان ستعود لتتحكم بالاستحقاقات المقبلة، فيستخدمها الفريق الذي ابتدعها، أي التحالف الإيراني – السوري، وكذلك الفريق الآخر المقابل، بحيث بات يصعب عودة الانتظام إلى الحياة السياسية والدستورية على الرغم من التغيير ولو الطفيف الذي أحدثته الانتخابات النيابية. والتعطيل في هذه الحال سيكون تعطيلاً لعامل لعب دوراً في النتائج التي آلت إليها الانتخابات، فيصبح التغيير في المزاج الشعبي العام الذي أحدث التغيير كأنه لم يكن، مما سيولد بعد مدة نقمة متصاعدة مشحونة بالغضب الشعبي على الوضع المأساوي الذي بلغته الأوضاع المعيشية المرشحة للمزيد من التدهور إذا بقيت الحلول بعيدة المنال واستمر تقاذف المسؤولية عن مزيد من الانهيار.

وبغض النظر عن الشخصيتين اللتين كانتا مرشحتين للتكليف، رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والقاضي نواف سلام، فإن امتناع 46 نائباً عن التسمية كانت له تداعيات أخرى طائفية استشعر كل من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان مساوئها، وإن عبّر كل منهما عن ذلك على طريقته. فالبطريرك الراعي سبق أن انتقد عدم قيام نواب بواجبهم في التسمية كما يفرض ذلك عليهم الدستور والواجب. وقال: “نحن في حاجة إلى قيادة جديدة متجرّدة تتميّز بروح المسؤوليّة”.

أما المفتي دريان فعلق على ما رأى فيه بعض السياسيين انتقاصاً من الموقع السنّي الأول في السلطة بسبب امتناع أكبر كتلتين نيابيتين مسيحيتين عن التسمية بأنه استخفاف بموقع رئاسة الحكومة بالقول: “لا أحد يستطيع أن يهمّش المسلمين السنّة في لبنان أو ينهش شيئا من حقوقهم… وسيبقى دورهم ومكانتهم وموقعهم الشعبي والدستوري والأساسي في المجلس النيابي وفي الحكومة ورئاستها”.

ومع أن بعض الأوساط المؤيدة لتكليف ميقاتي رأت في حصوله على 54 صوتاً، وامتناع كتلة “التيار الوطني الحر” عن تأييده خطوة تحرره من أي تجاوب مع مطالب النائب جبران باسيل التي كان رفض الاستجابة لها وأعلن رفضه إخضاع رئاسة الحكومة للمساومات، فإن هذا الرقم غير المسبوق في تكليف رئيس الحكومة يؤشر في الوقت عينه إلى ضعف الرئيس المكلف وإلى الصعوبة التي سيواجهها في عملية التأليف.

لم يكن عن عبث أن استبقت الأوساط السياسية الاستشارات بتوقع الفراغ الحكومي جراء الضغوط التي سيمارسها “التيار الوطني الحر” على الرئيس المكلف للتجاوب مع مطالبه بدءاً بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مروراً بتغيير قائد الجيش العماد جوزف عون، وصولاً إلى القبول بالتعيينات الإدارية والتشكيلات الديبلوماسية والقضائية التي يصر باسيل وعون على اتخاذ الحكومة قرارات في شأنها وفيها حصص “طابشة” لمصلحة “التيار الحر”.

وإن كان ميقاتي أعلن أنه بات مستعداً للاستجابة لقرار إقالة سلامة، فإن بعض الأوساط يرى أنه فعل ذلك لعله يحصل على تسهيل من الرئيس عون لعملية تأليف الحكومة الجديدة أو لفكرة الإبقاء على تركيبة الحكومة المستقيلة مع بعض التعديلات. أما اتخاذ القرار في مجلس الوزراء بإزاحة سلامة فيحتاج إلى تأمين أكثرية غير متوفرة نظراً إلى معارضة رئيس البرلمان هذا الإجراء من باب رفضه أن يستفرد باسيل بتعيين البديل لسلامة في سياق سعيه للإمساك بمفاصل القرار في عدد من المراكز الرئيسية في الدولة كي يمارس من خلالها نفوذه بعد انتهاء ولاية الرئيس عون. كما أن ميقاتي يدرك أن تغيير الحاكم لا يتم لمجرد اتخاذ قرار من قبله ومن قبل الرئيس عون، بل يحتاج إلى اقتراح ذلك من وزير المال الذي عليه بدوره أن يقترح الاسم البديل، أو الأسماء البديلة في الحاكمية ليصوّت مجلس الوزراء على اختيار واحد منها بأكثرية الثلثين. ولهذا السبب نقل عن الرئيس بري قوله أن تشكيل الحكومة الجديدة بالإبقاء على تركيبة الحالية والاكتفاء بتغيير بعض الأسماء والحقائب، يجب ألا يؤدي إلى أي تغيير في توزيع هذه الحقائب بين الطوائف والمذاهب، مما يعني بقاء حقيبة المالية للطائفة الشيعية وبالتالي تحت نفوذه.

مقابل ضعف تكليف ميقاتي، تحوّل نواف سلام إلى مرشح له تأييد وازن (25 صوتاً) على الرغم من امتناع كتلة “القوات اللبنانية” عن تسميته، وعودتها للانفتاح عليه بعد الاستشارات، لكن في مرحلة لاحقة يعزّز ترجيح الفراغ الحكومي، لمصلحة استمرار حكومة تصريف الأعمال. فـ”القوات” مثل فرقاء آخرين يعتبر أن الاستحقاق الفعلي الذي يجب أن يستأثر بالاهتمام هو انتخابات الرئاسة، لأن لا أمل من أي حكومة أن تتمكن من تحقيق أي حلول للأزمة السياسية الاقتصادية والمعيشية. فهل تنجح الدعوة إلى توحيد موقف السياديين والتغييريين حول اسم واحد للرئاسة الأولى، أم أن تجربة التشرذم في صفوف هؤلاء خلال التكليف ستتكرر في الاستحقاق الرئاسي؟

يصعب توقع نجاح توحيد هؤلاء من دون وجود قاطرة خارجية تسعى في هذا الاتجاه. ويبدو أن “حزب الله” بدأ يحتاط منذ الآن للحؤول دون تجميع القوى التي خاضت الانتخابات تحت شعارات متقاربة ثم تفرقت…

شارك المقال