جعجع… هل خسر السُنة بعد الحريري!

أنطوني جعجع

لا شك أن سمير جعجع قطع آخر خيط تواصل ايجابي، ليس مع الرئيس سعد الحريري وتياره وحسب، بل مع الطائفة السنية عن آخرها…

فما جرى قبل الاستشارات النيابية وخلالها، شكل حالة من القطيعة التي يصعب ترميمها أو احتواؤها، ووضع الطرفين في موقع فج بات التراجع عنه نوعاً من “الهزيمة” التي لا يريدها أحد، وبات المضي بها نوعاً من التحدي الذي لا يتحمله أحد.

ويجمع القسم الأكبر من المحللين والمراقبين، على أن ما أقدم عليه قائد “القوات اللبنانية” شكل، قسراً أو طوعاً، استخفافاً يصل الى حدود الالغاء للطائفة السنية التي تعامل معها وكأنها مجموعة أرقام لا مجموعة حيثيات يمكن لاحداها أن تشارك في لعبة الشراكة المسيحية – الاسلامية، وأسهم تالياً في إحراج بعض من أصدقائه السنة وبينهم اللواء أشرف ريفي الذي تموضع سريعاً في كتلة لا تمت الى حزب “القوات اللبنانية” بأي صلة.

وأضاف هؤلاء، أن ما فعله جعجع، زاد من حدة الشرخ القائم مع تيار “المستقبل” من جهة، وجعل من جهة أخرى أي سني آخر لا يدور في فلك الحريري، يحسب ألف حساب قبل أن يقدم على أي تعامل أو توافق أو تحالف مع الرجل، الذي استفز الغالبية السنية قبل الانتخابات النيابية معلناً أنه يتحكم بالقرار السني بعد اعتكاف الحريري، ليعود بعدها متجاهلاً اياها بشقيها السياسي والطائفي خلال ملء المقعد السني الأول في البلاد.

وهنا لا بد من سؤال يراود الكثير من متتبعي حركة جعجع، لماذا فعل ذلك وهو الطامح الى تولي رئاسة الجمهورية بأي ثمن وأي طريقة، وهو الزعيم الماروني الذي استعاد موقعه السياسي بعد خروجه من السجن اثر عفو خاص ساهم فيه السنة في شكل أساس ومباشر، وهو المرجع الماروني الأكثر دلالاً لدى البيئة الخليجية؟

ويقول أحد المخضرمين، ممن رافقوا حركة جعجع منذ زمن الحرب حتى الأن، ان الرجل، يعتمد في بعض الخيارات الكبرى، على الأمور الشخصية والتكتية أكثر من الأمور الاستراتيجية ولو أدى ذلك الى تدمير الهيكل على رأسه ورؤوس الجميع، مشيراً الى أن الرجل “يمارس السياسة من بوابة الشطارة لا من بوابة المهارة”، وهو ما يفسر كثرة الرهانات والقرارات والحسابات الخاطئة التي وسمت جزءاً واسعاً من مساره السياسي منذ إبرام اتفاق الطائف حتى يومنا هذا.

ولا يعني هذا أن الرجل كان مخطئاً من طرف واحد، بل ان أطرافاً آخرين ساهموا في جره الى مواقف سلبية وردات فعل حادة، وبينهم حيثيات سنية قادها سعد الحريري مرة وحيثيات مسيحية قادها الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل مرات عدة، ولم يوفرها حزب “الكتائب” في كثير من المحطات والمراحل.

صحيح أن السياسة لا تخلو من سقطات وتعويمات، ومن توافقات وتباينات، ومن صفقات وفراغات، لكن السؤال، في ما يتعلق بما جرى أخيراً، لماذا فعل جعجع ما فعل، ولماذا يُدان وحده لعمل قام به أيضاً فريق مسيحي آخر هو “التيار الوطني الحر”؟

الجواب، وأن يبقى في جعبة جعجع وحده، لا ينفي أن قائد “القوات اللبنانية” ارتكب واحدة من أخطائه الكبيرة التي تضاف الى خطأ التسليم برئاسة الجنرال ميشال عون، ودفع سنة تيار “المستقبل” الى امكان التعاون مع “الشيطان” في انتخابات الرئاسة الأولى، وسنة المستقلين والتغييريين الى المفاضلة بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” وأي ركن ماروني آخر، في البحث عن خليفة للرئيس عون.

وأكثر من ذلك لم يصب جعجع بسهامه الطبقة السنية السياسية، بل أيضاً دار الافتاء التي كانت تحاول بعد اعتكاف الحريري لملمة الشارع السني ومنعه من السقوط في قبضة “حزب الله” وتيار الممانعة معتبرة أن التماهي مع تيار سيادي، مهما كانت التباينات شديدة معه، يبقى أفضل من التسليم بهيمنة شيعية ايرانية الهوى على مقدرات البلاد والعباد.

وهنا لا بد من سؤال آخر، هل فعل جعجع ما فعله وفق حسابات خاصة أجراها تحت الطاولة بحيث يمنح نجيب ميقاتي ضمناً معركة مريحة في مقابل نفض يديه علناً من المنظومة الحاكمة، خصوصاً أن أسباب التخلي عن خيار نواف سلام لم تكن موفقة، أم توصل اليها متجاوزاً مصالح السعودية التي كانت تحاول بدورها شد العصب السني عبر فاعليات متعددة بينها الرئيس فؤاد السنيورة وأشرف ريفي، ومصطفى علوش وفؤاد مخزومي اضافة الى المفتي عبد اللطيف دريان؟

واذا كان من المستبعد أن توافق السعودية على التعامل مع الطائفة السنية اللبنانية التي تعتبر الطائفة الأكثر التصاقاً بأرض الحرمين الشريفين، والأكثر بعداً عن الحركات الأصولية والتكفيرية بطريقة الغائية، فكيف يمكن لأحد حلفائها أن يتعامل معها وكأنها طائفة مفلسة أو هامشية أو خالية من أي ركن سياسي يحمل مواصفات رجل الدولة؟

وإذا كان هذا صحيحاً، فلماذا يمكن أن تفعل السعودية ذلك، وهي التي تشكل رأس حربة عربية في مواجهة الهيمنة الايرانية على المنطقة العربية عموماً ولبنان خصوصاً، وإذا كان ما فعله جعجع صائباً فلماذا يتحدى فئة ناخبة يحتاج اليها في معركته الرئاسية المقبلة، وفي صراعه مع “حزب الله” ومحور الممانعة، اضافة الى “التيار الوطني الحر”؟

قد يقول قائل إن جعجع لا يطمح الى الرئاسة الأولى، والجواب انه يطمح اليها في شدة، وقد يقول أيضاً ان الرياض لا تحتاج الى السنة في لبنان، والجواب انها تحتاج اليهم في شدة، خصوصاً بعد انحسار النفوذ السني في كل من سوريا والعراق وفلسطين لمصلحة “الثورة الاسلامية” في ايران، وبعد تراكم الحاجة العربية والدولية الى الخط السني المعتدل في الشرق الأوسط، وبعد المساعي المبذولة سعودياً لاقامة حلف عسكري على غرار حلف الأطلسي مع كل من مصر والأردن.

اذاً، لماذا حدث ما حدث الخميس الماضي؟

الجواب ليس في متناول اليد أقله في المدى المنظور، لكن يبدو أن الرياض لا تراهن على ميقاتي لقيادة هذه المرحلة الدقيقة، وهي التي لم تفرّق بينه وبين الحريري على مستوى القطيعة الا بنسبة أقل، وأن قائد “القوات اللبنانية”، الخارج مزهواً من الانتخابات النيابية الأخيرة، لم يتمكن من ترؤس كتلة اعتراضية وازنة تضم نواب المعارضة من سياديين وتغييريين، فتحاشى في الاستشارات النيابية تبني شخصية سنية لا يستطيع ايصالها وحيداً الى السراي، منعاً لهزيمة قاسية ثانية تشبه ما أصابه في معركة نائب رئيس مجلس النواب وفي معارك اللجان، معتبراً أن رصيده الشعبي والسياسي والاقليمي الذي يراهن عليه للوصول الى بعبدا، لا يحتمل هذا الكم من العثرات والنقاط السود المتتالية، وأن “الهريبة” مرات يمكن أن تكون “ثلثي المراجل”…

شارك المقال