من بقي “فوق غربال” البطريرك؟

صلاح تقي الدين

لا يمكن للكلام الذي يصدر عن بطريرك أنطاكية وسائر المشرق ومن أعطي مجد لبنان له أن يمرّ مرور الكرام خاصة إذا كان يتعلق بالمنصب الأول في الجمهورية والذي هو وفقاً للعرف منذ الاستقلال مكرّس للطائفة المارونية، واستناداً الى القول الشائع “أهل مكة أدرى بشعابها”.

فبعد العظة التي ألقاها البطريرك بشارة بطرس الراعي من مقره الصيفي في الديمان الأحد الماضي وحدّد فيها ما يمكن وضعه في خانة “مواصفات” رئيس الجمهورية المقبل، بدا كما لو أنه وضع جميع الطامحين الى تبوؤ منصب الرئيس فوق غربال سقط من سقط تحته وبقي من بقي فوقه، فمن الذي سقط ومن الذي بقي فوق الغربال؟

من الطبيعي أن الشخصيات الطامحة أو التي من المعروف أنها مرشحة إلى منصب الرئاسة المقرر إجراء انتخاباتها بين الأول من أيلول وقبل الحادي والثلاثين من تشرين الأول المقبل وفقاً للدستور، وتسعى الى تسويق نفسها خصوصاً لدى الكرسي البطريركي في بكركي، بدأت بوضع علامات لنفسها استناداً إلى المواصفات التي وضعها سيد بكركي وتناقش مدى نجاحها في الامتحان الذي يجريه أو سيجريه غبطة البطريرك.

مرّ في تاريخ لبنان العديد من الشخصيات التي كان لها دور مؤثر وفاعل في اختيار أو تزكية شخصية رئاسية على أخرى، وفي هذا المجال لعلّ الأكثر شهرة من بين هذه الشخصيات الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط الذي له كلام ذهب مضرب مثل عندما خاطب الملك سعود بن عبد العزيز لدى زيارته إلى لبنان، وفي إشارة إلى الدور الذي لعبه للاطاحة بالرئيس الممدّد له الراحل الشيخ بشارة الخوري والرئيس المنتخب الراحل كميل شمعون، عندما قال جملته الشهيرة: “قلنا لذاك زل فزال وقلنا لهذا كن فكان”.

وعاد جنبلاط ولعب الدور نفسه في انتخابات الرئاسة في العام 1970 عندما أجرى ما أسماه “امتحاناً” للرئيس الراحل الياس سركيس و”سقط” فيه، فكان أن منح صوته للرئيس الراحل سليمان فرنجية الذي فاز في تلك الانتخابات بفارق صوت واحد، ولعلها كانت المرة الأولى التي يصار فيها إلى ممارسة لعبة “ديموقراطية” حقيقية في انتخابات الرئاسة.

لكن البطريرك الراعي أراد من خلال وضع “مواصفات” للرئيس المقبل عدم الدخول في لعبة الأسماء، فكان أن حدد “الشروط” التي يجب على الرئيس العتيد أن يتمتع بها كي ينال “بركة” بكركي، وفي الحقيقة ينال رضى الشعب اللبناني بأكمله الذي يتطلع بشغف إلى هذه الانتخابات وهوية الرئيس العتيد عله ينتشله من قعر جهنم الذي أوصله “الرئيس القوي” إليه.

وقال البطريرك: “انّنا نتمسّك بضرورة احترام هذا الاستحقاق في وقته الدستوريّ، وانتخاب رئيسٍ متمرِّسٍ سياسيّاً وصاحب خبرة، محترم وشجاع ومتجرِّد، رجل دولة حياديّ في نزاهته وملتزم في وطنيّته. ويكون فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكّل تحدّياً لأحد، ويكون قادراً على ممارسة دور المرجعيّة الوطنيّة والدستوريّة والأخلاقيّة، وعلى جمع المتنازعين والشروع في وضع البلاد على طريق الإنقاذ الحقيقيِّ والتغيير الإيجابيّ. وتقتضي ظروف البلاد أن يتمّ انتخاب هذا الرئيس في بداية المهلة الدستوريّة لا في نهايتها ليطمئنّ الشعب وتستكين النفوس وتنتعش الآمال”.

من من الشخصيات المارونية المطروحة للمنصب الأول في الجمهورية تتمتع بالمواصفات التي وضعها البطريرك ومن بالتالي بقي فوق الغربال ومن هو الذي “سقط”؟

من الطبيعي أن يكون رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل أول “الساقطين” فهو ليس متجرداً وليس فوق الاصطفافات والمحاور، لا بل على العكس من ذلك فهو السبب الرئيس في جرّ لبنان إلى سياسة المحاور نظراً الى الدور الكبير الذي يتمتع به بالقرب من “عمه” رئيس الجمهورية وتأثيره على القرارات “السيئة” التي اتخذها العهد القوي، إلى جانب علاقته الوثيقة بـ “حزب الله” وتشكيله تحدياً لقسم كبير من اللبنانيين، فهو بذلك لا يمكن أن “يطمئن الشعب” ولا أن “تستكين النفوس وتنتعش الآمال”.

ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، بعيد إلى حد ما عن المواصفات التي وضعها الراعي بحيث أنه على الرغم من التزامه الوطني وتمرّسه السياسي وشجاعته، إلا أنه أيضاً منخرط في الاصطفافات والمحاور والأحزاب، كما يشكّل تحدياً لقسم من المسيحيين وكل الشيعة وجزء كبير من السنة والدروز، ويكون بالتالي بعيداً عن الرؤية التي وضعها البطريرك للرئيس العتيد.

كما أن مواصفات الراعي لا تنطبق على رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، على الرغم من أنه يتمتع بكل المواصفات الوطنية والأخلاقية والنزاهة الشخصية، إلا أن ما يعيبه هو صراحته البالغة خصوصاً في ما يتعلق بعلاقته بالنظام السوري والرئيس بشار الأسد، وهذا كاف ليستفز قسماً كبيراً من اللبنانيين وبالتالي لن يكون بمقدوره ممارسة دور المرجعية الوطنية والدستورية التي يريدها غبطة البطريرك.

ربما أراد سيد بكركي أن يسهّل على الكتل النيابية مسألة التوافق حول شخصية رئاسية لم يكن اسمها لغاية اليوم مدار بحث وتدقيق، بل ربما أراد توجيه بوصلتها إلى شخصية لم يتم تسويقها لغاية اليوم إذ يمكن اعتبار تسويق الأسماء في هذه المرحلة بمثابة حرق لها، وبالتالي قد يكون لدى البطريرك اسم أو أسماء في جعبته لا يريد طرحها كما فعل سلفه البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير ما أدى إلى استبعادها جميعها وتمسّك “حزب الله” بمرشحه ميشال عون فأوصله “نكاية” بجميع الذين كانوا يعارضونه، ولعلّه يشعر “بالندم” على ذلك.

ويمكن القول إن من بقي فوق غربال البطريرك، قد يشكّل خشبة خلاص حقيقية للبنان، إذ أن من بين الشخصيات المارونية التي تتمتع ببعض وليس كل المواصفات التي طرحها الراعي، قائد الجيش العماد جوزاف عون والوزير السابق زياد بارود ورئيس الرابطة المارونية السفير السابق خليل كرم والسفير السابق العميد جورج خوري أو المصرفي الفرنسي اللبناني الأصل سمير عساف، وهي تتمتع بحضور وازن في ذهن البطريرك ولعله يحتفظ بأحدها في جعبته، لكن هل سيكون الاستحقاق المقبل لبنانياً صرفاً كي يستطيع سيد بكركي الرهان على وصول شخصية يحبّذها أم أن الاقليم والخارج سيكونان اللاعب الرئيس في اختيار رئيس الجمهورية العتيد كما درجت العادة؟

شارك المقال