حذار الفتنة!

صلاح تقي الدين

كُتب على اللبنانيين أن يعيشوا مراراً وتكراراً هاجس إيقاظ شبح الفتنة الطائفية وهذه المرة وإن كانت الأسباب مرتبطة بمسألة “إنسانية”، إلا أن الحادثة الملتبسة التي أثارتها قضية استجواب النائب البطريركي العام على الأراضي المقدسة والمملكة الأردنية الهاشمية وراعي أبرشية حيفا للموارنة المطران موسى الحاج أثارت موجة من ردود الفعل وصلت إلى حدود العمالة والتخوين المتبادل بين فريقين ينتظران بعضهما “على الكوع”، لكن هذه المرة بحدّة أعادت إلى الأذهان صورة الحرب الأهلية المشؤومة.

فجأة ومن دون مقدمات، أوقف جهاز الأمن العام اللبناني المطران الحاج وهو في طريقه من الأراضي الفلسطينية المحتلة عائداً إلى لبنان عبر معبر الناقورة، بعدما “ضبط” معه كمية كبيرة من الأموال والأدوية فاستجوبه على مدى ساعات طوال وصادر بعدها جواز سفره والأموال المضبوطة بموجب إشارة قضائية من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي، وطلب منه المثول أمام قاضي التحقيق العسكري في اليوم التالي لاستكمال استجوابه بحجة “التعامل” مع العدو الاسرائيلي وخرق قانون مقاطعة إسرائيل.

كانت المسألة لتكون “حادثة” عابرة لو لم تصل إلى الاعلام وتحديداً إلى صحيفة “نداء الوطن” التي صدرت في اليوم التالي وعنوان توقيف المطران على صدر صفحتها الأولى، وبدأ مسلسل التصاريح والمواقف يكبر ساعة بعد ساعة، خصوصاً بعد تسريب متعمّد “لتكبير الحجر” بأن بعض هذه الأموال يعود إلى مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز.

كل ذلك كان كافياً لكي تبدأ وسائل التواصل الاجتماعي بنشر التعليقات “الرسمية” والشعبية والتي تبادل فيها “المسيحيون” والشيعة” الاتهامات بالتخوين والعمالة وما “تيسّر” من الشتائم والسباب والتحدّي، وزادت الطين بلّة المواقف التي صدرت عن بطريرك الموارنة مار بشارة بطرس الراعي الذي اعتبر المسألة إهانة شخصية له، ردّ عليها مسؤولون من “حزب الله” على لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد ورئيس المجلس التنفيذي فيه السيد هاشم صفي الدين.

وعقد مجلس المطارنة الموارنة اجتماعاً طارئاً في الديمان ودعا إلى “محاسبة كل مسؤول عما جرى مهما كان منصبه حتى إقالته”، في انتقاد مباشر للقاضي عقيقي، مشيراً إلى أن “المطران الحاج احتجز من دون أي اعتبار لمقامه الروحي، وحققوا معه من دون مبرّر في مركز أمنيّ، وصادروا منه جواز سفره اللبناني وهاتفه وأوراقه والمساعدات الطبية والماليّة التي كان يحملها إلى المحتاجين والمرضى في لبنان من كل الطوائف ومن محسنين لبنانيين وفلسطينيين، لأن دولتهم لم تُحسن في السنوات الأخيرة إدارة البلاد لتؤمّن لشعبها حاجاته الأساسية”.

وختم بيان المجلس: “ما كانت البطريركية تظن أنه يمكن أن تصل الى زمن يتم التعرض فيه لأسقف من دون وجه حق ومن دون العودة الى مرجعيته الكنسية العليا التي كان لها الدور الأول في تأسيس الكيان ​اللبناني​”.

من جهته، أعرب رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع عن استغرابه من توقيف المطران، مؤكداً أن “المطران الحاج هو نائب بطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية، ومن صلب مهامه زيارة الأديار المارونية في تلك الديار والاطلاع على شؤونها وترتيب أمورها”. واعتبر أن “استدعاء المطران الحاج الى التحقيق في المحكمة العسكرية ليس انطلاقاً من شبهة أو دليل أو قرينة ما، بل رسالة الى غبطة البطريرك الراعي انطلاقاً من مواقفه الوطنية”.

ودان “التيار الوطني الحر”، في بيان صادر عن اللجنة المركزية للاعلام والتواصل، التعرض للمطران الحاج، مطالباً بـ “المبادرة فوراً إلى تصحيح الخطأ الجسيم الذي ارتكب في حقه”.

وصدرت مواقف عديدة من مسؤولين ورؤساء جمعيات أهلية مسيحية تدين ما جرى مع المطران الحاج، وكالت الاتهامات بحق الجهات التي تعتبرها “مسؤولة” عن هذا التعرّض لمقام ديني وخصت بالاتهام مباشرة “حزب الله”.

في المقابل، أكد رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة ” النائب محمد رعد ضرورة أن “يمتلك شركاؤنا مصداقية في سيرتهم ومواقفهم”، مضيفاً: “التعامل مع العدو خيانة وطنية وجريمة، والمتعامل لا يمثل طائفة، ولكن ما بالنا إذا عوقب مرتكب بالعمالة فيصبح ممثلاً لكل الطائفة، وتنهض كل الطائفة من أجل أن تدافع عنه؟ فأي ازدواجية في هذا السلوك؟ ولكن بكل الأحوال علينا أن نتعلم من الدروس، وأن نحفظ بلدنا ومواطنينا، لأنه لن يبقى لنا إلا شركاءنا في الوطن وإلا وطننا”.

لكن رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الذي اشتمّ محاولة لتوريط طائفة الموحدين الدروز في هذه الأزمة المفتعلة، سارع إلى إصدار بيان قال فيه: “أياً كانت الملابسات وراء توقيف المطران الحاج الا أنه من المفيد التنبيه الى أن المعالجة الهادئة أفضل من هذا الضجيج وأن احترام المؤسسات في هذا الظرف الصعب فوق كل اعتبار”. ورفض “الاستغلال الاسرائيلي لمقام رجال الدين في محاولة تهريب الأموال لمآرب سياسية”.

وفي الوقت نفسه، شدّد شيخ عقل الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى على “عمق العلاقة التي تجمعني مع غبطة البطريرك الراعي، وعلى دور بكركي الوطني ‏والأساسي”. ورأى “منعاً لأي سوء استغلال، أن قبول أموال مُرسلة من فلسطين المحتلة عبر الحدود اللبنانية أياً كانت ‏مبرراته الانسانية يصنّف ضمن التعامل مع دولة عدوّة، وهو ما لا يمكننا الموافقة عليه، بل ونرفضه رفضنا لكل أشكال التعامل مع ‏العدو، وعليه فإننا نصرّ على الامتناع عن استلام تلك الأموال التي لم يكن لنا علم مسبق بها، وإعادتها فوراً من حيث جاءت”.

غير أن البطريرك الراعي عاد وصعّد من لهجته في عظته أمس الأحد من الديمان، حيث ترأس القداس الالهي وسط حشود ضاق بها مقر البطريركية الصيفي جاءت للتعبير عن تأييدها لمواقفه واستنكاراً لما حدث مع الحاج، وبحضور لافت لنواب “القوات اللبنانية”، فتوجه إلى “حزب الله” من دون أن يسمّيه بالقول: “ابحثوا عن العملاء في مكان آخر فأنتم تعرفون من هم وأين هم… والبطريركية ستتابع مسيرتها من منطلق الحياد الإيجابي الناشط”.

لا يبدو أن هذه القضية ستنتهي في وقت قريب وتبدو تداعياتها أكبر من قدرة اللبنانيين على الاحتمال وسط الظروف الصعبة التي يعيشونها، غير أن شبح الفتنة التي أطلت برأسها هو أكثر ما يقلقهم، وعلى المسؤولين تدارك هذا الأمر قبل فوات الأوان، خصوصاً بعد تداول معلومات عن دور كبير لعبه الموساد الاسرائيلي في هذه المسألة ونصبه فخاً وقع فيه المطران عن غير دراية.

شارك المقال