جنبلاط خارج السرب… أين يحط؟

أنطوني جعجع

يعرف وليد جنبلاط أنه بات يشكل “بيضة القبان” في ملف الرئاسة الأولى سواء حطّ في معسكر الممانعة أو معسكر المعارضة، معتبراً أن الانتخابات النيابية الأخيرة أعطته موقعاً فاعلاً في توقيت حساس يشبه الموقع الذي شغله والده الراحل كمال جنبلاط في رئاسيات العام ١٩٧٠.

انه الموقع الذي يسمح له هذه المرة بصنع الرئيس لا مجرد انتخابه، ويمنعه من التخلي عنه لأحد أو كرمى أحد، أو على الأقل المساهمة فيه بلا شروط مسبقة ومكاسب لاحقة…

هذا هو وليد جنبلاط، سواء كانت استراتيجيته موضع اعجاب أو موضع امتعاض، وهذا هو الرجل الذي يعرف متى يتخلى عن حلفائه بلا ندم ويتقرب من خصومه بلا تحفظ، ما دامت مصلحته في خير وما دام أمن طائفته في أمان.

وليس سراً أن الأمر لم يستغرق كثيراً، قبل أن يرمي وليد جنبلاط تحالفاته وتحدياته الانتخابية الأخيرة خلف ظهره، ومعها كل التفاهمات التي عقدها مع سمير جعجع لينطلق صوب الوسط لا بل صوب الموقع الأقرب الى “حزب الله”، معتبراً في ظل الظروف الحالية، أن اختيار رئيس بالتفاهم مع حسن نصر الله يبقى أكثر أماناً من اختياره بالتفاهم مع قائد “القوات اللبنانية”.

وما زاد في ابتعاد جنبلاط عن جعجع في صورة مباشرة وعن بكركي في صورة غير مباشرة، قضية المطران موسى الحاج والأموال التي كان ينقلها الى الدروز من دروز الأماكن المقدسة، وهي الأموال التي تنصل منها على الهواء مباشرة في إطلالة كان الهدف منها إبعاد سيف “حزب الله”عن رقبته، واستحضار ماضيه العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، وإبعاد نفسه عن الفورة المارونية التي أعقبت ما تعرض له الحاج، إضافة الى النأي بالنفس عن المعركة التي يخوضها البطريرك بشارة الراعي ضد الهيمنة الايرانية – السورية على لبنان، وإفهام كل من يعنيهم الأمر أنه ناخب مستقل من جهة وثمين من جهة ثانية الى الحد الذي لا يستطيع أحد في الداخل والخارج أن يتجاهله.

وما زاد في التباعد تباعداً، وفي الاستقلالية استقلالية، الطريقة التي عالج بها جنبلاط قضية المطران الحاج، وذلك عندما نزع عنها ذريعة التبرعات المجردة من أي مؤامرات أو شبهات، وحصر الأمر بالموارنة وتحديداً موارنة الخط السيادي، في خطوة متعمدة لاحراج مرشحيهم الرئاسيين وإخراجهم أولاً، والتملص ثانياً من أي التزام يمكن أن يكون تعهد به في معراب عشية الانتخابات النيابية الأخيرة.

ولعل الشرخ الأكثر اتساعاً في هذا المسار، ظهر في التصويب المباشر على حليفه الموسمي جعجع، والتعرض له شخصياً مدافعاً عن القاضي فادي عقيقي المحسوب على حليفه الدائم نبيه بري والقريب مما يحيكه أركان العهد من ملفات غب الطلب، من دون أن يتردد في إفهام جعجع أنه ليس مرشح “اللقاء الديموقراطي” لا في الأمس ولا في الغد، الأمر الذي وجه الى طموح قائد “القوات اللبنانية” الضربة القاضية إن لم تكن القاتلة.

ما فعله جنبلاط لم يذهب هباء، اذ تمكن من سحب طائفته من الحملة التي يشنها تيار الممانعة على المعنيين بملف المطران الحاج، ومن الانتقال من خانة الطرف الى خانة الوسطي المستعد للتفاهم مع الجميع وفي مقدمهم “حزب الله” الذي لم يهدر فرصة التواصل معه سعياً الى ثمانية أصوات يعتبرها في حساباته الاستراتيجية أكثر صخباً من مئة ألف صاروخ ساكت.

وهنا لا بد من السؤال: هل تلقفت “رادارات” جنبلاط إشارات توحي بأن الأحداث الاقليمية والدولية ستصب حكماً في مصلحة ايران و”حزب الله”، وأن الرئيس المقبل لن يكون الا نسخة منقحة عن ميشال عون أو على الأقل رئيس واجهة يتلطى خلفها حسن نصر الله، أو هل عرف أهمية ما يملك فأراد توظيفه في لعبة الكبار حتى آخر لحظة؟

وأكثر من ذلك، هل يحاول جنبلاط من موقعه الوسطي الجديد، أن يفرض على الجميع رئيساً وسطياً على غرار الياس سركيس كما يتردد في أكثر من مكان، بحيث يقطع الطريق على أي حيثية فاقعة لا يستطيع التفاهم معها من دون المرور بأي قلعة من قلاع الخصوم والحلفاء معاً؟

وهل يستطيع رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” أن يفتح على حسابه بعيداً من المحور الفرنسي – الأميركي – السعودي الذي يتعامل مع الانتخابات الرئاسية في لبنان وكأنها الفيصل بين احتلال ايراني محكم يقوده حسن نصر الله، وفورة تحررية تقودها أقليات في العدد وأكثريات في التصويت؟

الواقع أن جنبلاط رمى “الطعم” لمن يعرف كيف يتلقفه، سواء كان ممانعاً أو معارضاً أو حتى عربياً وأميركيا ويبقى أن ننتظر كيف تنتهي الأمور بعد أسابيع قليلة، في وقت تستعد المعارضة لمواجهة الاستحقاق الرئاسي بسلاح مختلف واستراتيجية مختلفة تهدف الى ثلاثة أمور: أولاً عدم استنساخ ميشال عون، وثانياً تحويل “حزب الله” الى ناخب وليس صانع رؤساء، وثالثاً إضفاء بعض التدويل على استحقاق يحتكره منذ ست سنوات خط ممانع من دون تنسيق مع أحد أو شراكة من أحد.

ومع انطلاق التواصل بين المختارة و”حزب الله”، يتساءل المراقبون أين يمكن أن يحط جنبلاط بعد خروجه من السرب السيادي، ومن شهر عسلٍ انتخابي أدى قسطه وانتهى بعدما قدم الزعيم الدرزي تحالفه مع بري على تحالفه مع جعجع، وعندما اختار نواف سلام مرشحاً حكومياً بدل “اللا أحد” الذي رشحه قائد “القوات اللبنانية”، ليضع الفريقين أمام مرحلة جديدة لا تعكر صفو الجبل، بل تحسم الأمر بين أداء قائم على “ثعلبة” قد تجعل جنبلاط ناخباً ملكاً، وأداء قائم على “الخربطة” قد تجعل التيار السيادي اما ناخباً مشاكساً واما ناخباً متعثراً واما ناخباً مطمئناً الى أن الكلمة الفصل ليست عند جنبلاط أو “حزب الله”، بل في مكان آخر؟

انه المكان الذي يمتد من خط “كاريش” ويعرّج على الرياض وطهران مروراً بأميركا التي تعمل للعودة الى الشرق على حساب ايران وروسيا والصين، وصولاً الى أوروبا التي تعمل بهدوء لترتيب البيت الداخلي في لبنان قبل شفط الغاز من مياه المتوسط وذلك تحاشياً لشتاء قارس قد يسقط رؤساء وحكومات، أو تجنباً لحرب على سواحل لبنان واسرائيل لا تختلف كثيراً عن أي “حرب حبوب” محتملة على سواحل البحر الأسود أو “حرب ديوك” على سواحل بحر الصين.

شارك المقال