سلمان رشدي يصارع الموت… وليس نادماً على شيء

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

مرت عشرات الأعوام وهو ملاحقٌ بفتوى من الخميني بقتله، انتقاماً من رواية، أجل مجرد رواية عنوانها “آيات شيطانية”. هو الأديب والكاتب العالمي البريطاني – الهندي الأصل سلمان رشدي، الذي ظل متوارياً لعقود احتماء من أولئك الجهلة الذين يجري مسح أدمغتهم باسم الدفاع عن آيه الله أو الدين أو الزعيم، لكنه أصيب امس بــ 15 طعنة أثناء ندوة حوارية معه في نيويورك، على يد شاب أميركي من أصل لبناني يدعى هادي مطر، ربما لم يقرأ كتاباً في حياته ولم يستمتع برواية أو قصيدة، بل أفرغ حقده بتوجيه ما، من حزب أو مجموعة ينتمي إليها، علَّه ينال شهادة بطولة ويؤمن مكاناً له في الجنة، حسب الوعود التي يكون قد تلقاها من مشغليه. وقد أصيب رشدي بجروح واصابات بالغة في كبده ورقبته وأعصاب يديه وقد يفقد احدى عينيه، بحسب أحد المقربين منه.

وكان مفاجئاً في لبنان من أوساط مقربة من “حزب الله”، تعميم فيديو قديم يدعو فيه الأمين العام للحزب حسن نصر الله إلى ضرورة تنفيذ فتوى الخميني بقتل سلمان رشدي، علماً أنه في العام 1989 حاول شاب لبناني أيضاً، يدعى مصطفى مازح، وينتمي الى “حزب الله”، اغتيال رشدي بواسطة كتاب مفخخ، لكن الكتاب انفجر في وقت مبكر مما أدى إلى مقتل مازح وتدمير طابقين من فندق “بادينغتون”. ولهذا السبب عاش رشدي مختفياً على الأنظار والحياة العامة لمدة عشر سنوات.

كثيرون يشيرون إلى أن الكاتب لم يكن يتوقع أن تحدث روايته التي تسببت بهدر دمه، كل هذا الغضب وردود الفعل في دول إسلامية عدة، وأن تطرح عالمياً قضية من أهم القضايا التي يواجهها العالم، وهي حرية الرأي والتعبير، إذ وضعت الجميع أمام اختبار حقيقي في هذه البلدان التي كان يتصاعد فيها المد السياسي الإسلامي، والذي طال المفكر الحداثي فرج فودة، والأديب نجيب محفوظ وكان للتو قد نال جائزة نوبل للآداب.

كان سلمان رشدي يتوقع أن يتم التعرض له ويتهم بالإلحاد، ولكنه لم يتوقع فتوى بقتله.

المؤلف المولود في الهند أتى من مهنة تصميم الاعلانات، حيث قام بإطلاق عبارة “شقي… لكن لطيف” على الكعك بالكريمة، على سبيل المثال. حينها لم تكن لديه أي فكرة عن تسونامي الغضب التي تسببت بكارثة، وجعلته أسيراً في حياته وأن يسقط في فخ جيوسياسي.

في شهر تشرين الأول من العام 1988، وبعد سلسلة تهديدات تلقاها بالقتل، اضطر إلى اعتماد حارس شخصي والغاء تنقلاته وأسفاره، لا سيما وأن بعض الدول ذات الغالبية المسلمة قامت بحظر الرواية.

في كانون الأول من العام نفسه، تظاهر آلاف المسلمين في بولتون – مانشستر الكبرى في بريطانيا، وأحرقوا كومة من الكتب. وفي إسلام آباد قتل ستة أشخاص في هجوم حاشد على المركز الثقافي الأميركي، احتجاجاً على الرواية، ووقعت أعمال شغب في سريناغار وكشمير.

بعد أعمال الشغب بيوم واحد، وفي 14 شباط 1989، أصدر الخميني فتواه، التي دعا فيها جميع المسلمين إلى إعدام رشدي وإعدام كل من شارك في نشر الكتاب. نجحت الفتوى في تعميم التهديد بالقتل، وعرضت مؤسسة دينية إيرانية مكافأة قدرها مليون دولار، و3 ملايين دولار إذا ارتكب إيراني عملية القتل، وقطعت إيران العلاقات مع بريطانيا بشأن هذه القضية.

اختبأ سلمان رشدي لسنوات عدة تحت الاسم المستعار جوزيف أنطون، احتفالاً بالأديبين العالميين المفضلين لديه، جوزيف كونراد وأنطون تشيخوف، وعاش في مزرعة نائية في ويلز.

تعاطف مثقفون غربيون مع رشدي ودافعوا عنه، معتبرين قضيته اختباراً أساسياً لاستعداد دولهم للدفاع عن مبدأ حرية التعبير في مواجهة التهديدات القاتلة.

وسرعان ما وجدت المكتبات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى اتخاذ قرار عاجل بشأن موقفها من هذه المسألة، في مواجهة موجة القصف بالقنابل الحارقة في المتاجر التي استمرت في بيع “آيات شيطانية”.

في شباط 1989، أعرب رشدي عن ندمه، وأسفه لما تسبب به نشر الرواية للمسلمين، ومع ذلك كان لكلماته تأثير ضئيل. في حزيران من العام نفسه توفي الخميني، لكن الفتوى استمرت في عهد خليفته، المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي، وتجدد معه الجهد لوضع الفتوى موضع التنفيذ. في وقت لاحق من ذلك الشهر، قام الشاب اللبناني المولود في غينيا مصطفى مازح، بحادثة التفجير التي أدت مقتله.

في العام 1990، أوضح رشدي أنه معتنق العقيدة الإسلامية، ولم يوافق على الآراء التي عبرت عنها الشخصيات في الرواية، وعارض نشر الكتاب في غلاف ورقي. لكن خامنئي رفض الاعتذار، نقلاً عن سلفه قوله: “حتى لو تاب وأصبح أكثر المسلمين تقوى على وجه الأرض، فلن يكون هناك تغيير في هذا الأمر الإلهي”.

ولأن المتطرفين “الطامعين بدخول الجنة” عبر قتل رشدي كانوا غير قادرين على الوصول إليه شخصياً، بحثوا عن معاونيه الأدبيين. ففي تموز 1991، قُتل المترجم الياباني هيتوشي إيغاراشي، أستاذ الثقافة الإسلامية، في جامعة تسوكوبا حيث كان يعمل، شمال شرق طوكيو. قبل أيام قليلة، تعرض المترجم الإيطالي للكتاب لهجوم وأصيب إصابات بالغة بعد مهاجمته في شقته في ميلانو من إيراني تظاهر أنه يسعى إلى الحصول على مترجم لكتاب. بعد ذلك بعامين، أصيب ناشر الرواية النروجي ويليام نيجارد بالرصاص بجروح خطيرة.

في العام 1997، تولى الرئيس الإيراني الإصلاحي السيد محمد خاتمي، منصبه وبدأ يشير إلى أنه لن يسعى بعد الآن بنشاط إلى تنفيذ الفتوى على رشدي، أو تشجيع أي شخص على قتله، كجزء من الانفتاح على الغرب واستعادة العلاقات الديبلوماسية مع بريطانيا.

وأعرب رشدي عن ارتياحه للتأكيدات التي قدمتها حكومة خاتمي، وقال إنه لا يشعر بأي ندم على كتابه، حتى بعد أن أمضى عقداً من الزمان في الاختباء: “رواية آيات شيطانية مهمة في حياتي، وهي مثل أي من كتبي الأخرى”. وتراجع عن ادعائه في العام 1990 باعتناق الإسلام، معترفاً بأنه قال ذلك لإلغاء الفتوى. ولدى سؤاله عما إذا كان مسلماً، أجاب: “يسعدني أن أقول إنني لست كذلك”.

ووصف جهوده في استرضاء المتطرفين بتأكيد إيمانه والمطالبة بسحب الكتاب بأنه “أكبر خطأ في حياتي”.

لاحقاً، أسقط رشدي اسمه المستعار، وخرج جزئياً من حالة الاختباء. ومنذ أيلول 2001 زاد من وتيرة ظهوره العلني، لكن التهديد ضده لم ينته. على الرغم من تطمينات حكومة خاتمي، ظلت الفتوى سارية، وأيدها المرشد الأعلى لإيران. رفعت مؤسسة دينية إيرانية المكافأة على رأس رشدي، ووقع أكثر من نصف أعضاء مجلس النواب في البلاد، على بيان أعلنوا فيه أن الكاتب يستحق الموت.

بعد فترة طويلة من التصويت وخروج خاتمي من السلطة، ظل خامنئي هو المرشد الأعلى، وأوضح أن فتوى قتل رشدي لن تزول.
في العام 2016، جمعت 40 مؤسسة إعلامية تديرها الدولة في إيران 600 ألف دولار لزيادة المكافأة على رأس الكاتب. وقال عباس صالحي، نائب وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في ذلك الوقت: “فتوى الإمام الخميني هي مرسوم ديني ولن تفقد سلطتها أو تتلاشى”.

في مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية في باريس عام 2019، حيث أمَّنت الشرطة حمايته أثناءها، بدا أنه يعتقد أن العالم قد تجاوز الفتوى: “نحن نعيش في عالم يتغير بسرعة كبيرة. وهذا موضوع قديم جداً”. وقال: “هناك الآن أشياء كثيرة أخرى يجب أن نخاف منها وأشخاص آخرون يجب أن لا يقتلوا”. وأعلن “لا أريد أن أعيش متخفّياً”، معتبراً أن “سنوات الاحتجاجات المظلمة التي شهدت مخططات تفجير وقتل أحد مترجمي الكتاب وتعرض اثنين آخرين لعمليتي طعن وإطلاق نار تبدو الآن كأنها أحداث وقعت منذ زمن طويل جداً”.

وأكد أنه في الفترة التي ألف فيها “آيات شيطانية” لم يكن الإسلام يشكل موضوع نقاش. وأضاف: “من بين الأمور التي حدثت أن الناس في الغرب باتوا يعرفون أكثر (عن الإسلام) من السابق، وقد أسيء فهم الكتاب بصورة كبيرة، ففي الحقيقة، هو رواية عن مهاجرين في لندن يتحدرون من جنوب آسيا”.

وعما إذا كان نادماً على تأليف الكتاب، أجاب: “لست نادماً على شيء”.

شارك المقال