باجس في نابلس

زاهر أبو حمدة

أرسل رسالته الأخيرة إلى القائد العام/ الأخ أبو عمار يقول فيها: “نعاهدكم ونعاهد شعبنا ونعاهد الله أننا لن نستسلم، ولن نلقي السلاح وسنقاتل حتى بالحجارة”. بعدها بأيام فتح صندوق ذخيرة أرسله له أحد الأصدقاء الخائنين فانفجر فيه. استشهد القائد باجس أبو عطوان يوم 18 حزيران 1974 في جبال الخليل جنوب الضفة المحتلة.

عُرف باجس بلقب “أبو شُنار”، نسبة الى طائر الحجل أو كما يدعى “الشنار” المشهور بالذكاء والتمويه حيث عند الخطر يصبح لونه بلون التراب. نال هذا اللقب، بعدما لاحقه جنود الاحتلال فدخل في حيز ضيق جداً داخل صخر جيري وغطى نفسه بحجر حتى مرّ الجنود وخرج بعدها، فأصبح “أبو شنار”. وفي مرة أخرى حاصر جيش الاحتلال بيته عام 1971، فاشتبك معهم وأوقع فيهم عشرات القتلى والجرحى وانسحب سالماً غانماً بارودة جندي. بعدها نسف الاحتلال بيته. فأصبحت حكاياته على الألسن وأسطورة في نظر شعبه وعدوه، والتجأ الى الكهوف والبراري مُطارَداً ومُطارِداً لأكثر من سبعة أعوام ومُحيّراً أجهزة الأمن الاسرائيلية.

بَنَتْ شقيقتا الشهيد هيفاء وعبلة، البيت أكثر من مرة، ومن ثم ينسفه الجيش بقرار من الحاكم العسكري. في المرة الأولى عام 1968 كان سبب نسفه تجنيد موسى أبو عطوان لابنه باجس وعلي أبو مليحة المعروف بـ”ملك الجبل” والتخطيط لعملياتهم قبل المطاردة. فيما كان النسف الثاني عام 1971 انتقاماً من باجس وعملياته. دفع هذا القائد الكثير من الثمن على المستوى الشخصي والمعيشي، وحاول الاحتلال ابتزازه عبر عائلته، فاعتقل شقيقته عبلة، عام 1970 وحُكمت بالسجن تسعة أشهر بتهمة مساعدة الفدائيين. وفي عام 1972 اعتقل شقيقتها هيفاء وحُكمت بالسجن ستة أشهر بتهمة الانتماء إلى خلية فدائية تتبع حركة “فتح”. ومن الروايات المذكورة في كتاب “باجس أبو عطوان، عاش البطل… مات البطل” للقائد الأديب الشهيد معين بسيسو، أن الحاكم العسكري في الخليل، قال لوالد باجس إن “ابنك قُتل” فبصقت هيفاء في وجهه. وفي هذا الوقت كان باجس يدفع سبعة دنانير لأحد الرعاة مقابل رأس غنم، قبض الراعي الدنانير ومضى وهو يُحدث نفسه: “البنادق في أيديهم ومع ذلك يدفعون ثمن الأغنام”.

حين سلك باجس طريقه كان يعرف مصيره لكن قراره: مواجهة. نفذ أكثر من 52 عملية فدائية ضد جيش الاحتلال، في أماكن وأوقات مختلفة، ومن الملاحظ أن أي فلسطيني لم يقدم شهادة واحدة ضد باجس أبو عطوان، وكان نموذجاً في التعاطي مع البيئة الحاضنة. وقبل أشهر وجد مواطن فلسطيني مذياعاً صغيراً (راديو ترانزستور) قديماً، وفيه بطاريتان قديمتان جداً، ثم أخذ عوداً خشبياً ونبش في محيط الموقع، فوجد صحناً زجاجياً صغيراً ومعدات أخرى، تعود لباجس ورفاقه.

وفي ليلة دفنه في صيف 1974، رأى الفلاحون في دورا رؤى عجيبة، تمثلت في طيور ذات حجم كبير تحمل في مناقيرها عناقيد العنب، تلقي بها فوق سقوف بيوتهم. أما والدة باجس فرأت نحلة بحجم طائر الشنار تحط فوق تراب القبر ثم تطير.

بعد 48 عاماً، تنقل امرأة من الخليل، لوالدة إبراهيم النابلسي أنها رأت في منامها النبي إبراهيم عليه السلام يستقبل أبو فتحي بعد ليلة من استشهاده. هذه صدفة أو حكايات لها أصل، ليس مهماً كثيراً. الأهم أنه بعد هذه الأعوام الثقيلة يخرج باجس جديد، هذه المرة في نابلس شمال الضفة. ينجو تسع مرات من الاعتقال أو الاغتيال، ويُحاصر ويشتبك حتى آخر رصاصة وقبل استشهاده يرسل رسالة صوتية: “لا تتركوا البندقية”. هي صيرورة شعب، وحكاية ثورة مستمرة أبطالها من فدائي قوات “العاصفة” إلى “كتائب شهداء الأقصى”. ولكن بعد استشهاد إبراهيم النابلسي، متى سيكون لنا باجس في مخيم آخر أو منطقة أخرى؟ ربما قريباً، فالأفراد يصنعون مجد الجماعة ويصيغون لهم مفردات وحكايات تتحول إلى تراث أو فيلم سينمائي، لكنها لا تموت.

شارك المقال