عهد العبث السياسي

صلاح تقي الدين

لم يشهد لبنان منذ استقلاله عهداً تميّز بالعبث الذي حطّم كل مظاهر الدولة كهذا “العهد القوي” الذي لا يزال يمارس لامبالاة فاضحة تجاه كل المشكلات التي يعاني منها اللبنانيون، ولا يحاول حتى التراجع قيد أنملة عن الأحلام التدميرية التي يملكها في سبيل تحقيق المآرب الشخصية التي يريدها الصهر الميمون والتي تقارب حلم إبليس بالجنة، ضارباً عرض الحائط بالدستور والقوانين وهيكل المؤسسات التي انهارت الواحدة تلو الأخرى.

لم يكف رئيس هذا العهد عن الزعم بأنه لا يتحمّل مسؤولية ما وصل إليه لبنان، بل ذلك كان نتيجة 30 عاماً من التراكمات من سوء الادارة والفساد والسياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة الخ… لكنه في المقابل نسي أنه منذ العام 2005 وهو شريك كامل في المسؤولية، لا بل إنه يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن الحالة المزرية التي يتخبّط بها البلد.

فهل نسي اللبنانيون أنه منذ وطأت قدما الرئيس ميشال عون مطار بيروت عائداً من المنفى الباريسي، شكّل ما أسماه في حينها رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط “تسونامي” شعبية، بحيث خاض الانتخابات ودخل إلى المجلس النيابي بكتلة زعم أنها أكبر كتلة مسيحية، ولا يزال وريثه السياسي رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل يكرر الزعم نفسه لكي يبيح لنفسه مخالفة الدستور والأعراف المتعلقة بتشكيل الحكومات على سبيل المثال لا الحصر؟

وهل نسي أيضاً أنه صاحب الشعار الأشهر “كرمال عيون صهر الجنرال” ليفرض شروطه في تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ، كي يحصل على الحصة الوازنة فيها وتحديداً الحقائب السيادية إلى جانب الحقائب “الدسمة” كحقيبة الطاقة التي تسبّبت بأكثر من نصف الدين العام اللبناني منذ 17 عاماً؟

وهل نسي اللبنانيون أن هذ الفريق هو صاحب شعار “استعادة حقوق المسيحيين” وتبيّن بالنتيجة والممارسة أنه زاد في قهر المسيحيين وضربهم؟ إذ أن مفهومه قام على اعتبار “التيار” حصرياً ممثل المسيحيين، في الوقت الذي نسج فيه تفاهماً “غير مفهوم” مع “حزب الله” الشيعي الذي لولا الدعم غير المحدود الذي قدّمه له في الانتخابات النيابية، لما كان لديه العدد الذي يفاخر به من النواب.

“ما خلّونا” شعار شهير أيضاً أطلقه صاحب العهد وكرره من بعده “السلطان” ووزراء “التيار” ونوابه كافة لتبرير فشلهم الذريع في إدارة شؤون البلاد والعباد، ثم يأتون ليحاضروا “بالعفة” حول محاربة الفساد ومنع المحسوبيات وهم واعون ومدركون أن سبب فرض العقوبات على “رئيسهم” هو الفساد وفقاً للتعليل الأميركي لوضع جبران على لائحة العقوبات.

كل ذلك يقع في خانة العبث السياسي الذي إن كان هناك من وصف صريح ومباشر لما قام به هذا العهد منذ وصوله إلى سدة الحكم فإنه لا يقع سوى في هذه الخانة. الحجج التي يحاول “ببغاوات” العهد الدفاع من خلالها عن فشلهم، لا تبرئهم لا بل تزيد من صوابية اتهامهم، وها هي الأخبار والتسريبات تتوالى حول ما ينوي “التيار” القيام به منعاً لتطبيق الدستور في حال خلو سدة الرئاسة، لعدم ترك قصر بعبدا.

وفي هذا المجال، يوضح أحد ألمع الخبراء الدستوريين أن جميع مبررات عدم ترك عون لقصر بعبدا في الحادي والثلاثين من تشرين الأول المقبل في حال عدم التئام مجلس النواب لانتخاب رئيس جديد، ساقطة قانونياً ودستورياً.

ويقول الخبير الدستوري لموقع “لبنان الكبير” إن “المادة 62 من الدستور لا تحتمل أي لبس ولا تفسير، فلدى شغور منصب الرئاسة لأي سبب كان تناط صلاحيات الرئيس بمجلس الوزراء وكالة، وإذا كان الرئيس عون أو فريقه مصرّين على تكرار ما جرى في العام 1990 فهذا شأنهما لكنه فعل يعرّضهما لمساءلة قانونية”.

ويؤكّد الخبير الدستوري أن عون الذي وعد اللبنانيين بالذهاب إلى جهنم قد نفّذ وعده، لكنه في حال “عصيانه في بعبدا، فإن أبواب جهنم ستتسع لكي تضمه وفريقه أيضاً”.

عبث ما بعده عبث، واستهتار ما بعده استهتار. الشعب يئن من الألم لفقدان مدخراته في المصارف، ولعجزه عن الاستشفاء وعن شراء الدواء، وعدم قدرته على تحمّل المصاريف التي تضاعفت بسبب فقدان الليرة اللبنانية قيمتها، وبسبب عدم تمتعه بالحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة الكريمة، وأرباب العهد منشغلون عن ذلك كله بإيجاد التبريرات لبقاء الرئيس عون في بعبدا، أو وضع الخطط لارغام الرئيس نجيب ميقاتي على تشكيل حكومة تضمن لصهر “العهد القوي” التمتع بالنفوذ الذي يرغب به بعد “رحيل” عمّه من بعبدا، وهو على ما يقال، لن يفعل قبل ضمان مستقبله السياسي.

موظفو القطاع العام مضربون عن العمل، والأفضح، أن قضاة لبنان أيضاً اعتكفوا عن ممارسة مهامهم، والسبب هو إهمال هذا العهد والقيّمون عليه لواجباتهم في معالجة الأسباب التي أدت الى تراجع قدراتهم الشرائية وعدم تمكّنهم من الوصول إلى مراكز أعمالهم بسبب غلاء المحروقات، ناهيك عن فقدان القرطاسية في الادارات العامة ما يعطّل شؤون المواطنين كافة.

يمضي اللبنانيون في عدّ الأشهر والأسابيع والأيام لا بل الساعات الباقية على رحيل هذا الكابوس الجاثم على صدورهم، أملاً في وصول من لا تكون له الأحلام نفسها التي كانت لدى الفريق الحالي، لا بل من تكون لديه خطة إنقاذ مبدئية تنشلهم من جهنّم وتبدأ بهم رحلة الصعود إلى السطح.

يدرك اللبنانيون سلفاً أن أمامهم أشهراً صعبة وربما سنوات، لكنها على الأقل ستكون أرحم من الحال التي هم فيها، ويكرّرون المثل الشعبي “أكثر من القرد ما مسخ الله”.

شارك المقال