عمل أطفال الشوارع جريمة منظمة والسلطة شريكة

حامد الدقدوقي

مآس متعددة عاشتها مريم على الرغم من صغر سنها، بدءاً من التسول القسري الذي أجبرتها والدتها على ممارسته وصولاً إلى استغلالها جنسياً من قبل فتى قاصر تعرف عليها خلال ممارستها التسول.

قضية مريم، وهو اسم مستعار، ككثيرين غيرها من الأطفال الذين يتم استغلالهم في “التسول القسري” بحيث بات هؤلاء استثماراً مربحاً لذويهم في زمن الانهيار الاقتصادي وتردي أوضاع معظم الأسر.

الأسوأ بحسب مختصين أن هذه الأسر باتت تستغل أطفالها على الرغم من المخاطر العديدة التي تلحق بهم، بداية بانتهاك كرامتهم الإنسانية وصولاً إلى تعرضهم لأشكال مختلفة من العنف الجسدي، واللفظي، والجنسي من دون أي رادع إنساني أو أخلاقي.

مريم، التي تم ضبطها في أحد الفنادق مع فتى قاصر استغلها جنسياً، تقيم حالياً في جمعية تهتم بأطفال الشوارع وذلك بناء على قرار قاضي الأحداث. واليوم لا ترغب في العودة إلى كنف أسرتها بعد إدراكها حجم الاستغلال الذي تعرضت له من أقرب الناس اليها.

التسول لم يعد يقتصر على طلب المال، بل أصبح يأخذ أشكالاً وطرقاً متعددة وأساليب وفنوناً متنوعة كمسح زجاج السيارات، وبيع الزهور وعبوات المياه، وأشياء أخرى بخسة الثمن، وكل ذلك يعتمد على أطفال لم تقو عظامهم بعد لمواجهة متاعب الحياة.

وبحسب تقرير صادر عن “اليونيسف” في العام 2021 بعنوان “بدايات مظاهر العنف: أطفال يكبرون في كنف أزمات لبنان”، فان حوالي 1.8 مليون طفل، أي أكثر من 80 في المائة من الأطفال في لبنان يعانون الآن من فقر متعدد الأبعاد، بعد أن كان العدد حوالي 900.000 طفل في العام 2019 وهم يواجهون خطر تعرضهم للإنتهاكات مثل عمالة الأطفال، أو زواج الأطفال بهدف مساعدة أسرهم على تغطية النفقات.

وعليه، فإن أعداد الأطفال في تزايد يومي، وتوزيعهم المحكم في الشوارع لا يدع للشك مكاناً بأن هناك جهات تستغلهم ضمن عمل منظم ومحترف من قبل عصابات.

وهذا ما كشفه رئيس بلدية جبيل وسام زعرور في مطلع العام 2022 خلال الصرخة التي أطلقها عبر إذاعة “صوت لبنان” بعد سلسلة شكاوى سجلت في قلم البلدية، اذ كشف عن وصول الأولاد إلى المدينة في سيارات تقلهم صباح كل يوم ومن ثم تجمعهم في المساء.

وعلى الرغم من بعد المسافة بين مدينة جبيل شمال لبنان ومدينة صيدا جنوب لبنان، تبقى المشكلة واحدة وهي عمل أطفال الشوارع واستغلالهم في جني الأموال.

وأكد رئيس بلدية صيدا محمد السعودي في حديث لموقع “لبنان الكبير” قيام البلدية بواجبها في مكافحة ظاهرة التسول عموماً، ولاسيما الأطفال ضمن نطاقها عبر حملات دورية يتم خلالها إحضارهم إلى مبنى البلدية، وإبقاؤهم طيلة النهار ثم إخراجهم ليلاً بعد مصادرة الأموال التي تكون بحوزتهم وتوضع في صندوق خاص.

وأوضح السعودي أن هذه الحملات تضرب مخطط مشغليهم وتحد من تواجدهم، إذ يختفون لفترة من الزمن بعد كل حملة قبل أن يعودوا إلى الظهور مجدداً عبر إحضارهم من قبل مشغليهم بصورة جماعية وتوزيعهم في الشوارع.

اتفاقية حقوق الطفل

في العام 1990 صادق لبنان على اتفاقية حقوق الطفل والتي بموجبها بحسب المادة 2 “تحترم الدول الأطراف الحقوق الموضوعة في هذه الإتفاقية وتضمنها لكل طفل يخضع لولايتها من دون أي نوع من أنواع التمييز، بغض النظر عن عنصر الطفل أو والديه أو الوصي القانوني عليه أو لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو رأيهم السياسي أوغيره أو أصلهم القومي أو الإثني أو الإجتماعي، أو ثروتهم، أو عجزهم، أو مولدهم، أو أي وضع آخر”.

ورأت الخبيرة في حماية الطفل سلام شريم أنه على الرغم من تسجيل لبنان إنجازات على صعيد حماية الطفل تتماشى مع المعايير الدولية المعتمدة، لا يزال هناك قصور في التطبيق بسبب القوانين المرعية وغياب قانون أحوال شخصية موحد يضمن مصلحة الطفل في الحضانة والرعاية وعدم صدور قانون حقوق الطفل وإقرار المراسيم التطبيقية لتنفيذ قانون إلزامية التعليم كي لا يبقى حبراً على ورق.

وعن دور وزارة الشؤون الإجتماعية، قالت شريم لموقع “لبنان الكبير”: “العمل على الوقاية من المخاطر عبر إطلاق برامج تقوم بتنفيذها أو عبر التنسيق مع جمعيات أهلية متعاقدة معها ومعالجة الأسباب التي أدت بالأطفال إلى العمل في الشوارع كالفقر والأسباب الإجتماعية”.

ولفتت شريم إلى عدم وجود إحصاءات دقيقة تتحدث عن عمل الأطفال، بل كل ما هو موجود تقديرات تشير إلى ازدياد مفرط في عددهم، وتدني سن دخولهم إلى سوق العمل غير المنظم والمتفلت من رقابة وزارة العمل والمخالف للقانون الذي نظم عمل الأحداث من ناحية ساعات العمل وأنواع المهن المسموح العمل فيها.

وأشارت الى أن عدم التنسيق بين الادارات المعنية بحماية الطفل من جهة والمجتمع الأهلي من جهة أخرى، وقلة التركيز على البرامج المتخصصة وقلة التمويل والأزمة الاقتصادية التي أثرت على كل مفاصل الحياة تشكل معوقات على درب تنفيذ القوانين واتفاقية حقوق الطفل.

وناشدت شريم “المجتمع اللبناني النظر إلى هذه الفئة المستضعفة باعتبارها ضحية، ومساعدتها لا تكون بإعطائها المال الذي سيذهب إلى جيوب مستغليهم بل بالطعام والشراب”، داعية على الصعيد الرسمي إلى “التكاتف والتنسيق بين الوزارات والادارات والجمعيات الأهلية لوضع خطط تنفيذية للقضاء على عمل الأطفال مبنية على الرصد والتقويم لضمان نجاحها”.

السلطة متخاذلة وشريكة

عرفت المادة 586 من قانون العقوبات اللبناني الإتجار بالأشخاص بالتالي: “اجتذاب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له.بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها، أو الاختطاف أو الخداع، أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف، أو إعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا، أو استعمال هذه الوسائل على من له سلطة على شخص آخر بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الغير.

لا يُعتدّ بموافقة المجني عليه في حال استعمال أي من الوسائل المبينة في هذه المادة.

أما ضحية الإتجار فتعني أي شخص طبيعي ممن كان موضوع اتجار بالأشخاص أو ممن تعتبر السلطات المختصة على نحو معقول أنه ضحية اتجار بالأشخاص، بصرف النظر عما إذا كان مرتكب الجرم قد عُرِفت هويته أو قُبِضَ عليه أو حُوكم أو أُدين.

يعتبر استغلالاً وفقاً لأحكام هذه المادة إرغام شخص على الإشتراك في أيّ من الأفعال التالية: أفعال يعاقب عليها القانون، الدعارة، أو استغلال دعارة الغير، الإستغلال الجنسي، التسوّل، الإسترقاق، أو الممارسات الشبيهة بالرق، العمل القسري أو الإلزامي، بما في ذلك تجنيد الأطفال القسري أو الإلزامي لإستخدامهم في النزاعات المسلحة، التورط القسري في الأعمال الارهابية، نزع أعضاء أو أنسجة من جسم المجنى عليه.

لا تأخذ بالاعتبار موافقة المجني عليه أو أحد اصوله أو وصيّه القانوني أو أي شخص آخر يمارس عليه سلطة شرعية أو فعلية على الإستغلال المنوي ارتكابه المبيّن في هذه الفقرة.

يعتبر اجتذاب المجني عليه أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو تقديم المأوى له، لغرض الإستغلال بالنسبة لمن هم دون سن الثامنة عشرة، إتجاراً بالأشخاص، حتى في حال لم يترافق ذلك مع استعمال أي من الوسائل المبينة في الفقرة (1) (ب) من هذه المادة”.

وفي السياق، علق مصدر سياسي مطلع لموقع “لبنان الكبير” على هذا الموضوع بالقول: “إن النصوص موجودة ولكن القدرة إن لم نقل الرغبة في تطبيقها غير موجودة، فمعظم الشبكات التي تدير عمليات التسول وتقوم باستغلال الأطفال في العمل هي شبكات محمية من مراجع سياسية أو أمنية في البلد وإلا كيف يمكن تفسير تواجد أطفال على إشارات المرور بجانب القوى الأمنية التي يفترض بها حمايتهم من الإستغلال وتوقيف مشغليهم”.

وذكر المصدر بتصريح صحافي لوزير الداخلية السابق مروان شربل بتاريخ 4 نيسان 2012 أكد فيه توقيف 78 مشغلاً، موضحاً أن “المجموعات التي تستغل الأطفال تقوم باستئجارهم من أهلهم وتدفع لهم سلفاً مبلغاً معيناً عن الطفل ومن ثم تحضرهم في شاحنات صغيرة وتقوم بتوزيعهم على الأراضي اللبنانية لتقوم في نهاية اليوم بتفتيشهم وأخذ الأموال التي قاموا بتحصيلها من التسول ثم ترجعهم إلى أهلهم”.

ورأى المصدر أنه “لو تجرأت السلطة واتخذت قراراً بإنقاذ أطفال الشوارع واعتقلت مشغليهم المعروفين لديها، وحاكمتهم بموجب قانون العقوبات بجريمة الإتجار بالأشخاص، لأنهينا المشهد المأساوي من شوارع لبنان وسهلنا على الوزارات المعنية والجمعيات الأهلية المعنية معالجة بعض الحالات الفردية التي قد تظهر من حين إلى آخر”.

وفي اتصال مع موقع “لبنان الكبير” رأت الصحافية المتخصصة بحقوق الطفل والقضايا الانسانية نادين النمري أن استغلال الأطفال في التسول المنظم يعد شكلاً من أشكال جريمة الاتجار بالبشر، مشددة على ضرورة وضع الإجراءات اللازمة للحد من هذه المشكلة.

وأشارت الى أهمية الاجراءات الاستباقية والوقائية لمعالجة هذه المشكلة لجهة تحديد فئات الأطفال الأكثر خطراً، وحمايتهم قبل وقوعهم في براثن التسول المنظم من خلال توفير الإحتياجات الخاصة سواء كانت دعماً أو تمكيناً اقتصادياً للأسرة أو ضمان استمرارية الطفل على مقاعد الدراسة.

وأكدت النمري في هذا الصدد أهمية تغليظ العقوبات على من يستغل الأطفال في التسول بهدف جني المال، أما في الحالات الخاصة المعدمة فاعتبرت أن ذلك يتطلب دعماً وتمكيناً اقتصادياً للأسرة.

وقالت: “ان الأطفال المستغلين في التسول هم ضحايا لظروف أسرية واجتماعية صعبة، وبالتالي ووفقاً للإتفاقية الدولية لحقوق الطفل يتم اعتبارهم أطفالاً بحاجة الى الحماية والرعاية”.

الأطفال أمل الوطن ومستقبله، وعلى الحكومات الاستثمار في تنمية قدراتهم والعمل على حمايتهم وسن القوانين لتأمين مصلحتهم الفضلى ومعاقبة مستغليهم، وإن لم تفعل تكون شريكة أقله في تقصيرها إن لم نقل في تواطؤها.

شارك المقال