جرائم التعذيب في السجون لا تعيد هيبة الدولة

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

موقوف يموت تحت التعذيب… ثلاث ساعات كانت كافية لتقضي على حياة الشاب السوري بشار عبد السعود ويتوقف قلبه عن الخفقان، لتجري بعدها محاولة التهرب من الجريمة المرتكبة ببيانات وتوضيحات زادت من تعقيدات الحادثة، ولم تستطع أن تخفي مسؤولية جهاز أمن الدولة ومرتكبي هذا الفعل الشنيع وهم ضابط وأربعة عناصر من دون معرفة ما اذا كان توقيفهم سيؤدي الى محاكمتهم، وإنزال أقسى العقوبات بحقهم، أم سيخفف الحكم عليهم! وبوادر اللفلفة ظهرت في صياغة ما جرى تسريبه من اتهامات وجهت الى الشاب الضحية بالانتماء الى “داعش” أو بحيازته 50 دولاراً مزورة أو تعاطيه المخدرات أو التهجم على الضابط المسؤول، وهو أمر شهدناه في حالات سابقة، اذ كان يجري تخليص متهمين ومتورطين مثل “الشعرة من العجين” أي أن التلوث يبقى عالقاً فيها.

الصور الشنيعة التي ظهرت على مرأى الاعلام عن علامات التعذيب لاقت اهتمام الوسائل المحلية والعالمية، صور لا تختلف عن تلك التي كانت تسرّب عن المعتقلين في سجون نظام بشار الأسد، فالعهد الحالي صديق صدوق للأصل والحليف، واستخدام وسائل التعذيب والتعنيف حتى القتل هي الصورة الجديدة التي يقدمها نظام الجحيم عن لبنان، علماً أن حوادث كثيرة كانت تحصل في مراكز التحقيقات الأمنية بحق معتقلين سوريين ولبنانيين وعرب، الا أنها كانت شبه مخفية، ولولا نشاطات جمعيات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والقانونية المعنية بحقوق الانسان التي كانت تصدر تقارير أو تنظم مؤتمرات، لما ظهر ذلك في الاعلام، لكن وجود وسائل التواصل الاجتماعي شكل رديفاً أساسياً في فضح جرائم التوقيفات غير القانونية، وتلفيق التهم الخطيرة لأبرياء مثل قضية الفنان زياد عيتاني وغيره.

ويبدو أن التأثيرات البعثية الأمنية تجذرت في نفوس بعض الضباط اللبنانيين أو ربما شدّهم الحنين الى ماضي مراكز المخابرات السورية في بيروت وغيرها، فأرادوا التقليد، والتجريب بالمعارضين السوريين وغيرهم من المتهمين لا سيما أولئك الذين أوقفوا بتهم التطرف الاسلامي، وهم مسجونون منذ سنوات من دون محاكمات وبعضهم ينتظر العفو الكريم من ساكن قصر بعبدا.

والواضح أن السلطة السياسية تعمل على تغطية ممارسات الأجهزة الأمنية التي تتبع هذا الفريق أو ذاك، ولأن الأمن مقسم لا تجري محاسبة المعتدين على حقوق الموقوفين وغالباً ما تجري مخالفات في طرق التوقيف وأساليبه والمداهمات المعتمدة والتحقيقات المخالفة والتي يكتب مضمونها في أكثر الأحيان حسب الاعترافات التي يمليها المحققون أنفسهم، والحكايات كثيرة عن ذلك، مما يدل على هزال الدولة، وعلى أن مراكز الأجهزة ليست إلا محميات أمنية لقوى سياسية تعمل خارج الأطر القانونية وتنفذ سياسات انتقامية وإنتقائية لترهب المواطنين اللبنانيين وغيرهم.

لم تقم السلطة بأي مبادرة للتجاوب مع مطالبة المنظمات الأهلية المعنية بحقوق الانسان بتأمين حماية للموقوفين والمحتجزين العرب، ومقاضاتهم وفقاً للقوانين وليس تعذيبهم واهانتهم ومعاقبتهم بقسوة ومعاملتهم بالسوء قبل ادانتهم.

والمعروف أن لبنان صادق في العام 2000 على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وبروتوكولها الاختياري عام 2008. كما أن مجلس النواب أقر في 19 أيلول 2017 القانون رقم 65/2017 الذي يجرّم التعذيب، وفي تموز 2019، عيّنت الحكومة الأعضاء الخمسة في اللجنة الوطنية للوقاية من التعذيب. وفي 2020، عدّل البرلمان المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية للسماح بصورة صريحة للمحامين بالتواجد مع المحتجزين أثناء استجوابهم الأوّلي لدى الأجهزة الأمنية.

لكن كل نظريات التدابير المفترض الالتزام بها لمكافحة التعذيب لم تتحول إلى نهج عملي، فظل التعذيب سائداً في مختلف مراكز التحقيق التابعة لأكثر من جهاز أمني وفي السجون لا سيما في رومية، حيث كشفت فيديوهات تقشعر لها الأبدان عن عمليات تعذيب فيما الشكاوى حولها لا تؤخذ في الاعتبار وانما تجري لفلفة القضايا المرفوعة وينجو الفاعلون من المحاسبة على جريمة التعذيب، خصوصاً أن القانون ينصّ على مرور الزمن على جريمة التعذيب من 3 إلى 10 سنوات وتبدأ المهلة عند خروج الضحية من السجن أو الاعتقال أو التوقيف المؤقّت، بما يتعارض مع المعايير الدولية التي تنص على أنه لا ينبغي أن يكون هناك مرور زمن على جريمة التعذيب.

وغالباً ما كانت الأجهزة الأمنية لا تلتزم بالمادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فتحرم المحتجزين من حق حضور محام أثناء استجوابهم، وتعرضهم للعنف الجسدي، ولا يجري تصوير التحقيق بحجج واهية مثل تعطيل كاميرات الفيديو. كما تعاملت في أحيان كثيرة مع المحامين المدافعين عن الموقوفين والمسجونين بالترهيب والتهديد.

لا يكفي لبنان في هذه الأيام صيت حكمه السيء في ادارة شؤون البلاد والعباد، وتوالي الفضائح التي ترتكبها سلطة الفساد بحق مواطنيه، الى درجة التشكيك بقدرته على تحقيق العدالة، حتى تأتي فضائح التعذيب لتزيد الطين بلة، لا سيما مع تدهور أحوال السجناء ووفاة عدد منهم وعدم توافر الشروط الصحية اللازمة والانسانية، بحيث يعيشون في منافي ويزجون في الزنازين من دون أدنى اهتمام بصحتهم وتجويعهم وتعريض سلامتهم للخطر على الدوام نتيجة الفساد المستشري في السجون من الادارات والعناصر المولجة بالأمن والتي تعتاش من ابتزاز السجناء وأهلهم.

حسب الاحصاءات هناك مئات العرب والأجانب الموقوفون في السجون اللبنانية من دون محاكمة، 79% من السجناء في لبنان لم تتمّ محاكمتهم، و43% منهم هم من العرب والأجانب، لكن المحاكمات لا تجري والمحاكم معطلة في عهد الذل الا استنسابياً، والمخالفات في الاحتجاز والتوقيف لا تخضع للقانون، ومخالفات المعايير الدولية للمحاكمات العادلة تستمر، وأجهزة أمن الدولة فاتحة على حسابها وتتشاطر في فبركة الملفات والاتهامات وانتزاع الاعترافات بقوة الضرب والتعذيب والارهاب وصوغ السيناريوهات الكاذبة لتثبت ولاءها لعهد الجحيم وتصنع جمهورية الخوف، ليزيد غضب الناس على الدولة ومؤسساتها وتضعف الثقة بعدالة القضاءوتسمح للمرتكبين بالافلات من العقاب.

شارك المقال