الجانب المظلم من الترسيم: شر مستطير يضرب لبنان والمنطقة

أحمد عدنان
أحمد عدنان

بين متشائم ومتفائل إزاء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ترجح كفة التفاؤل بسبب المصلحة الإيرانية خلف الترسيم، وبسبب الظرف الإسرائيلي الداخلي، وبسبب أحوال سوق الطاقة.

وترسيم الحدود البحرية والبرية مصلحة لبنانية وعربية لا شك في ذلك، لكن طريقة الترسيم وتفاصيله تنذران بشر مستطير سيصيب لبنان وغير دولة عربية.

فمن حيث الشكل والطريقة، من قام بالترسيم ميليشيا إرهابية متأيرنة، إذ يفاوض ما يسمى بـ”حزب الله” نيابة عن إيران، وناب عن “الحزب” حليفاه في الدولة: رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، ومن الجهة الأخرى ناب عن إسرائيل الوسيط الأميركي. وكل هذه الأطراف، العدو والصديق المزعوم، لم تحط أصحاب الأرض الحقيقيين بتفاصيل ما يجري، سواء السلطة الفلسطينية أو مؤسسات الدولة اللبنانية (مجلسا النواب والوزراء مجتمعين). وفي لبنان بالذات من قام بالترسيم فريق سياسي واحد خارج الأصول، فمهمة الترسيم تقع على عاتق الحكومة كما جرى في ترسيم الحدود مع قبرص، ولا يلغي ذلك متابعة رئيس الجمهورية.

ومن حيث التفاصيل، ما جلبته الميليشيا للبنان أقل بكثير مما جلبه الرئيس أمين الجميل في اتفاقية 17 أيار 1983، ومع ذلك سيصفق رئيس مجلس النواب نبيه بري لنتائج ترسيم اليوم على الرغم من أنه ساهم في اسقاط اتفاقية أيار بالأمس. والدرس المستفاد: كلما تأخر الانخراط في مشروع السلام كلما زادت الخسائر خصوصاً إذا فاوض الإيراني عن العربي.

لكن الخطورة الاستراتيجية لإنجاز الترسيم بهذه الطريقة، تكمن في موقع آخر، إذ قدمت إيران وميليشياتها نفسها للمجتمع الدولي كعامل استقرار لا كعامل فوضى، وكعامل تنازل لا كعامل تشدد، في لفتة هي الأولى من نوعها على عكس الواقع والمعتاد، والجملة السياسية والاستراتيجية التي تترجم هذا التصرف مفادها: إيران هي بديل الدولة العربية وتقدم ما لا تقدمه، وما يعزز هذا الاستنتاج حرص أطراف الترسيم اللبنانية على تهريبه بعيداً عن مجلسي النواب والوزراء بأعذار واهية أقله إلى الآن.

هل يعني ذلك حاضراً ومستقبلاً، أن التفاوض على القضايا السيادية والاستراتيجية مع الميليشيات المتأيرنة في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي غيرها (وبالتالي التفاوض مع إيران) أسهل وأجدى وأربح للأطراف الخارجية من التفاوض مع الدولة العربية؟ وإذا كان كذلك، هل يعني هذا – بالتبعية وبالضرورة – تمكين الميليشيات المتأيرنة أكثر من الدول المتواجدة فيها أو خلق مثيلاتها في دول لا تتواجد فيها؟

والأكيد، أن قيام ميليشيا “حزب الله” بالترسيم مع إسرائيل، معناه أنه سيسخر سلاحه بالكامل ضد الجبهة الداخلية والجبهة العربية، فترسيم الحدود مع إسرائيل يعني الاعتراف بها وحراسة حدودها، ويعني نقل المقاتلين من الجنوب اللبناني إلى بيروت وصنعاء وبغداد ودمشق وغيرها.

وبدلاً من أن تكسب الدولة اللبنانية غنائم الترسيم، ستحاول الميليشيا الانقضاض على الدولة باسم الترسيم، وبالتالي ستستشرس في السيطرة على المؤسسات – عرفياً أو دستورياً – وفي الصدام بمختلف المكونات الداخلية إذا غاب التسليم بالأمر الواقع. وبصياغة أوضح: إن الترسيم بهذه الطريقة خفض احتمالية أي صراع مستقبلي ضد إسرائيل ورفع احتمالية الاقتتال الأهلي الداخلي، وهذا يشمل كل الدول التي تنخرها الميليشيات المتأيرنة التي لا هدف لها سوى إضعاف الدولة العربية وتقزيمها وتحطيمها كما ونسيجها الاجتماعي وهويتها الثقافية.

إيران تحاول التهدئة مع الغرب لمواجهة التمرد الذي تعانيه داخلها وفي الدول التابعة، وتحاول الاقتراح على الغرب أن يتحالفا ضد العرب (والسنة) ودولهم لتحقيق المصالح الإيرانية والغربية، والترسيم بالشروط الإيرانية هو النموذج المصغر الذي يراد البناء عليه مستقبلاً، وليس غريباً ملاحظة هذا التحول الخطير بينما تعيش إيران وميليشياتها أحلك الأيام وأسوأ الظروف، وهذا يعطي فرصة للدولة العربية – محور الاعتدال بالذات – وحلفائها للمبادرة وتصحيح مسار الترسيم ورفض الأمر الواقع.

من حيث المبدأ، يحق للرئيس نجيب ميقاتي – وهو المشهود له بالنباهة وبالحصافة وبالسياسة – رفض تهريب الترسيم خارج مؤسسات الدولة، وبالتحديد مجلسي الوزراء والنواب، والأهم هو طرح موضوع ترسيم الحدود البرية جنباً إلى جنب مع ترسيم الحدود البحرية، فإذا كان الترسيم البحري حلالاً وممكناً بسبب المصلحة الإيرانية فإن إضافة الترسيم البري فرض عين للمصلحة اللبنانية قبل المصلحة العربية:

– ترسيم الحدود من أساسيات الدولة وبديهيات السلم الأهلي والإقليمي.

– إسقاط صفة “دولة المواجهة” عن لبنان، سواء بإنهاء حالة الحرب ضد إسرائيل أو بتبني الحياد الذي ينادي به بطريرك الموارنة. والخروج من حالة الحرب يعني حكماً القفز إلى بر السلم والاستقرار والازدهار.

– سحب كل ذرائع السلاح غير الشرعي.

– التأكيد للمجتمع الدولي أن القرار في الدولة العربية قرار داخلي، وأن القرار الإيراني لا يعني التنفيذ والإنجاز، خصوصاً وأن إيران وميليشياتها في أحلك أيامهم، وتنازلاتهم المشهودة قد تنفعهم وقد لا تنفع، والاتفاق مع اهل المنطقة أجدى من الاتفاق مع العناصر الدخيلة عليها.

– التأكيد للمجتمع الدولي على أن محور الاعتدال وحلفاءه هم معدن الاستقرار في المنطقة، والأحق بغنائم السلم.

– إنهاء استخدام لبنان كورقة إيرانية، وإنهاء المتاجرة بأزمات المنطقة للانقضاض على لبنان والفتك به.

– إعادة السنة بشراكة كاملة وفاعلة وحقيقية إلى معادلة القرارين الوطني والإقليمي، وتحرير المسيحيين العرب من الحالة الذمية في حلف الأقليات.

إن التمرد الداخلي على التحكم الإيراني بالترسيم – لا التمرد على الترسيم نفسه – مكاسبه استراتيجية، ومن الواجب أن يجد الرئيس ميقاتي – أو من يخلفه – ورئيس الجمهورية الجديد – حال انتخابه – كل مؤازرة من القوى الوطنية والسيادية في هذا السياق، أو لعل هذا السياق هو المعيار الحيوي لجودة الحكومة المقبلة ورئيس الجمهورية الجديد، إضافة إلى المعايير الأخرى الأساسية: تمكين الدستور، واستعادة الدولة واحتكارها لقراري السلم والحرب، وإحياء الاقتصاد، واطلاق مسارات الاصلاح والانماء والإعمار وتطبيق اتفاق الطائف.

إن التمرد الداخلي على التحكم الإيراني بالترسيم – من خلال الإصرار على إنجازه مؤسساتياً وفق الأصول وعدم استثناء الترسيم البري – سيكشف ضعف إيران ومن والاها، فالميليشيات المتأيرنة تعلم جيداً أن الأمواج المتلاطمة تتربص بها إقليمياً والأعاصير العاتية تتنطرها لبنانياً، ولا يمكنها خوض حربين ستحرق ثيابها وبيتها معاً.

شارك المقال