محاكمة عون… واجب وطني ومسؤولية دستورية

زياد سامي عيتاني

إنّ رئيس الجمهورية في لبنان، هو المسؤول الوحيد الذي يُقسم على الدستور، وهذا القسم يضعه تحت الرقابة الدائمة، أقلّه لناحية الحفاظ عليه وعدم إنتهاكه، وبالتالي يوجب محاكمته في حال إنتهاك الدستور أو الخيانة العظمى.

هذه المسؤولية عبّرت عنها المادة 49 من الدستور، التي اعتبرت أنّ رئيس الجمهورية هو “رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن” وهو من “يسهر على احترام الدستور”، وهذا ما يعطي للرئيس، صلاحية القيادة المعنوية للبلاد Magistrature Morale.

فهذا الحق الدستوري أي سلطته “كرئيس دولة” يبرّر قسم المادة 50 عندما يحلف يمين “الاخلاص للأمة والدستور”… بقوله: “أحلف بالله العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه”. في الوقت الذي لا يكون هذا القسم مطلوباً من بقية أعضاء السلطات الدستورية ورؤسائها أي من رئيس مجلس الوزراء ورئيس المجلس النيابي.

وبناء عليه، فإنّ لا تبعة على رئيس الجمهوريّة حال قيامه بوظيفته إلّا عند خرقه الدّستور أو في حال الخيانة العظمى، سنداً للمادّة 60 من الدّستور، في حين حدّدت المادة نفسها، أنّه يمكن توجيه اتهامه بالخرق والخيانة العظمى بقرار يصدر عن مجلس النواب، بغالبية ثلثي مجموع الأعضاء، ويحاكم أمام المجلس العدلي المنصوص عنه في المادة 80، ويعهد في النيابة العامة لدى المجلس الأعلى إلى قاضٍ تعيّنه المحكمة العليا بكلّ غرفها.

على الرغم من الآلية المعقدة، لمحاكمة رئيس الجمهورية، التي تندرج في صلب الواجبات الدستورية والقانونية والمسؤولية الوطنية لمجلس النواب، وعلى الرغم من أنّ هذه السابقة لم تحدث قط في تاريخ الجمهورية اللبنانية، فإنّ حجم الخروق الدستورية التي إرتكبها رئيس الجمهورية طيلة عهده، يضع مجلس النواب الحالي الذي انتخب منذ بضعة أشهر أمام مسؤولياته التاريخية، لا سيما النواب السياديون والتغييريون، فضلاً عن الكتل التي كانت طيلة العهد الرئاسي تدين وتحاول التصدي لكلّ تلك الخروق والممارسات اللاوطنية، التي قاربت الخيانة العظمى، عندما تسبّب بسلخ لبنان عن محيطه العربي (المنصوص عليه في مقدمة الدستور)، من خلال تبني مواقف “محور الممانعة” (!)، مما تسبّب بتوتير علاقة لبنان مع أشقائه العرب، بكلّ ما ترتب على هذا التوتر من إنعكاسات ونتائج سلبية على الصعد كافة، في وقت أحوج ما يكون فيه لبنان الى وقوف الدول العربية الى جانبه لتجاوز الإنهيار الشامل، الذي يتحمله العهد، من جراء العبث المجنون بنظام لبنان والأداء الإنقلابي والتعطيلي، عندما خرج رئيس البلاد عن دور الحكم العادل والحكيم الجامع، وإنحيازه الى فريقه السياسي، بحجة إستعادة حقوق المسيحيين المسلوبة، وإستعادة صلاحيّات مزعومة!، علماً أنّ كلّ الوقائع أثبتت بما لا يقبل الشك، أن هذه العناوين الشعبوية المنمّقة، للمعارك السياسية والهرطقات الدستورية، الذي كان يخوضها ويطلقها بإعتبار نفسه الرئيس القوي في طائفته، (متناسياً أنّه مستقوٍ بمستخدميه ممن يملكون القوة)، ليس لتحقيق التوازن (كما يدّعي)، بل لنسفه من جذوره، مجاراة لدعاة “المثالثة” (!).

كلّها، لم تكن تعدو كونها مجرد امتيازات “أوليغارشية” عائلية، ترضي جنوح “صهره المدلّل” وشهواته السلطوية الغرائزية الدنيئة والصفقاتية النفعية، المسكون بمفاعيل “حرب الالغاء”، مختزلاً بأنانيته تمثيل المسيحيين، وحصر حقوقهم بما يحققه لنفسه من مصالح!.

ولئلّا يبقى ما إرتكبه العهد من خيانة وخروق في خانة التهم السياسية، نورد بعض نماذجها:

التخلي عن السيادة الوطنية:

– زج لبنان في سياسة المحاور، ضارباً عرض الحائط بـ”سياسة النأي بالنفس”، تحديداً محور “الممانعة”، على الرغم من الانقسام الخلافي العمودي الحاد بين المكونات اللبنانية، إزاء هذا الموضوع السيادي، بما ينطوي عليه ذلك من خطر داهم يهدّد عروبة لبنان هوية وإنتماءً.

– عدم إتخاذ موقف وطني سيادي حازم بشأن مشاركة ميليشيات لبنانية في حروب وصراعات في عدد من الدول العربية، وتدخّلها السافر في شؤونها الداخلية، وتأجيج الصراعات المذهبية بين شعوبها.

– التغاضي عن تحويل لبنان إلى منصّة لمهاجمة دول وأنظمة عربية شقيقة، وقفت إلى جانبه ودعمته في أحلك الظروف، لا سيما إعتداءات العدو الصهيوني التدميرية عليه.

– معرفته ورئيس الحكومة الأسبق حسان دياب، بوجود مادة “نيترات الأمونيوم”، المخزّنة في مرفأ بيروت، والتي تسبّبت بالانفجار “الجهنمي” الذي قضى تدميراً وتخريباً عليه وعلى ثلثي العاصمة، فضلاً عن الخسائر البشرية والاقتصادية الكارثية.

– التماهي مع “حزب الله” على حساب مصالح لبنان، والسكوت عن تصرّف وزير الاقتصاد الذي وجّه كتاباً إلى المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، يطلب منه “إلغاء الأعمال الحربية والارهابية من دائرة الأسباب التي أدت إلى انفجار مرفأ بيروت”.

– توجيهه كتاباً إلى المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، عبر وزيرة العدل، يطلب فيه حذف فرضية أن يكون الانفجار ناتجاً من عمل عسكري عدائي أو عملية إرهابية منظمة وحصر التحقيق بجرم الاهمال، وذلك بذريعة التزام شركات التأمين بدفع التعويضات لمصلحة المتضررين، بناء على خطاب للسيد نصر الله، الذي طلب الأمر نفسه.

على صعيد الخروق الدستورية:

– الخروج عن دوره كحَكَم، وتدخّله في تأليف الحكومة وإنقلابه على النظام البرلماني وأصوله، والمطالبة بحصة وزارية وبثلث معطل وبوضع شروط على الرئيس المكلّف، خلافاً للدستور، مما كان يتسبّب بإطالة أمد التشكيل، وفي بعض الأحيان إلى عدم التمكّن من ذلك.

– التصريح أمام وفد سفراء الاتحاد الأوروبي بأنّه “يعمل على تشكيل حكومة مكتملة الصلاحيات”، في حين أنّ الدستور أناط مهمة تشكيل الحكومة بالرئيس المكلف وبالتشاور مع رئيس الجمهورية.

– تلويحه بأنّه لن يقبل بأن يسلّم صلاحياته إلى حكومة تصريف أعمال في حين أن الدستور صريح جداً لناحية أن رئيس الجمهورية المنتهية ولايته يغادر القصر الجمهوري من دون إعطائه أيّ حق في نقاش مرحلة ما بعد انتهاء ولايته أو النقاش في الصلاحيات الدستورية.

– إصدار مرسوم التجنيس، وما حكي عن صفقات ورشاوى بمبالغ خيالية من قبل المستفيدين، فضلاً عن أنّ أعداداً منهم رجال أعمال يعملون لمصلحة النظام السوري، على الرغم من الحظر الدولي.

– التغاضي المتعمّد، لا بل تحمله المسؤولية المباشرة عما آلت إليه أوضاع الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية وإداراتها العامة من تقويض وتحلّل وإحتضار وفشل غير مسبوق، فضلاً عن الإنهيار المالي والإقتصادي، وتدمير كلّ القطاعات المنتجة، وصولاً إلى إفقار اللبنانيين ونهب جنى أعمارهم.

– معاركه السياسية الكيدية العلنية والضمنية مع أغلب المسؤولين في أعلى مناصب الدولة، ممن لا ينصاعون الى أوامر “الصهر المدلّل”.

هذا غيض من فيض… ولائحة الانتهاك الفاضح للدستور تطول وتطول!

بالتأكيد ليس من السهل التوصّل إلى إجماع وطني في الوقت الحاضر لمحاكمة الرئيس ميشال عون وعهده، وذلك بسبب ضلوع غالبية الطبقة السياسية، على قاعدة المحاصصة في كلّ سياساته التدميرية من جهة، ومن جهة ثانية لأنّه وفي ظل تحكّم العصبيات الطائفية والمذهبية، فإنّ حملة طائفية مضادة ستواجه المطالبة بالمحاكمة.

لكن، لا بدّ من التعويل والرهان أولاً على السياسيين العقلاء والحكماء من المسيحيين الوطنيين، تحديداً الموارنة، ومن ثمّ على السياسيين من خارج السلطة الحاكمة، لبلورة جبهة وطنية عريضة وإنشائها، تضمهم إلى حقوقيين ومفكرين وأصحاب رأي وناشطين، يتمتعون بالجدية والكفاءة، بعيداً عن الكيديات، تؤسّس لإطلاق حملة دستورية قانوية موثّقة، تثبت فشل رئيس الجهورية في القيام بدوره كحكم وكحارس للجمهورية وللدستور، مخالفاً الإرادات الوطنية والدولية، الهادفة الى إنقاذ لبنان من الكارثة التي يتخبّط بها، فهو لم يخرق الدستور ويتحايل عليه فحسب، بل أجهض أيضاً كلّ خارطة طريق كان يمكنها وضع البلاد والعباد على سكة الإنقاذ والنجاة، بهدف سوق العهد وسيده الى المحاكمة، كخطوة متقدّمة لاستعادة الدولة وقرارها المستقل، حفاظاً على الوطن وموقع رئاسة الجمهورية، الذي ينبغي أن يكون قوياً بإلتزامه الدستور، يُطَمئن المسيحيين ويَجمَع بشخصيته وحِكمَتِه وعدله كلّ الطوائف حول فكرة لبنان.

شارك المقال