هل يمهد الفراغ للاطاحة بالطائف أم لتطبيقه؟

زياد سامي عيتاني

بعد إنتهاء دور الوصاية السورية كمنظّم للحياة السياسية في لبنان، مع إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، كثُر الحديث عن ضرورة تعديل النظام السياسي، من خلال رفع الصوت بضرورة إدخال تعديلات جوهرية على إتفاق الطائف، أو من خلال المطالبة بنسفه، واستبداله تارة بالمثالثة، وتارة أخرى بالفدرلة، عن طريق دعوات مسمومة الى الحوار بأشكال مختلفة، تخفي خلفها سعي البعض الى فرض عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين.

لا يخفى على أحد أنّ الاغتيال المزلزل للرئيس الشهيد رفيق الحريري، كان واحداً من أهدافه الكثيرة، اغتيال اتفاق الطائف، نظراً الى الدور البارز والمحوري الذي لعبه لجهة المساهمة في إنجازه من جهة، ومن جهة أخرى لأنّه كان الحارس الأمين عليه، لقناعته الثابتة بأنّه الصيغة الأمثل التي تضمن وتصون الوحدة الوطنية، والسلم الأهلي، والتعايش بين مختلف المكونات اللبنانية، فيما لو قُدّر لهذا الاتفاق أن تنفذ كامل بنوده خلال المهلة التي حُدّدت بخمس سنوات، غير أنّه لم ينفذ منه وبأداء سياسي سيء سوى ذلك الجزء الذي تطابق مع أولويّات النظام السوري.

وإذا كان الاتهام بأنّ النظام السوري هو من منع تنفيذ دستور الطائف إلا انتقائياً، فإنّ الإتهام لا يعفي الطبقة السياسية المطوأفة والممذهبة بأكملها التي تولّت زمام الأمور السياسية بعد الإنسحاب السوري، من أنّها أمعنت في عدم اكمال التنفيذ، خصوصاً بند تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، التي تتعارض مع هيمنتها ومكاسبها السلطوية والصفقاتية، بحجة المحافظة على حقوق الطوائف!.

فانفجار ١٤ شباط ٢٠٠٥ كان اغتيالاً مزدوجاً للرئيس الشهيد، وللطائف معاً، وإن نجح، فقد تمكّن من إغتيال الرئيس الحريري جسديّاً، فإنّه وإلى حين لم ينجح في إغتيال الطائف، مما أبقاه هدفاً دائماً للإغتيال السياسي من رافضيه والمناوئين له (!) وفي مقدمهم ميشال عون (الرئيس السابق) و”حزب الله”.

صحيح أنّ حليفا إتفاق “مار مخايل” يجمعان ويتوافقان على الإطاحة بالطائف، لكن لكلاهما حساباته وأهدافه المتناقضة والمختلفة عن الآخر التي تدفعانهما الى السعي معاً لضربه في مقتل وإنهاء مفاعيله.

لا يختلف ماضي ميشال عون عن حاضره حول موقفه من إتفاق الطائف، وإن أقسم عليه كدستور للبنان يوم إنتخابه رئيساً للجمهورية، فهو عندما تمرّد على الشرعية وزجّ الجيش اللبناني في مغامرتين عسكريتين خاسرتين، تمثلتا في حربي الإلغاء والتحرير، يومها خوّن كلّ من وافقَ على الطّائف، وأطلقَ جملته الشّهيرة: “يستطيع العالم أن يسحَقَني ولن يأخذ توقيعي”، ولم يوفر في تخوينه حتى سيد بكركي، حينما اقتحم مناصروه الصرح البطريركي وتعرّضوا للبطريرك مار نصر الله بطرس صفير بالإهانات المشينة والمعيبة، في واقعة خطيرة، غير مسبوقة ولا ملحوقة، منذ نشأة المقام البطريركي برمزيته الدينية وموقعه الوطني.

لم تغيّر سنوات المنفى الخمس عشرة التي قضاها عون في العاصمة الفرنسية موقفه من إتفاق الطائف، كما أنّه لم يُجد قراءة المتغيرات والتحولات التي حصلت طيلة فترة منفاه، إن كان على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الاقليمي والدولي، التي كرّست الطائف دستوراً للبنان ونظاماً سياسياً له، على الرغم من كلّ الشوائب في تنفيذه الإنتقائي والتحايل على نصوصه وأحكامه.

فما أن عاد إلى لبنان مستفيداً من الظروف والتداعيات التي أحدثها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حتى وجدها فرصة مؤاتية للانتقام من الطائف وتصويب معاركه وأدائه لاستهدافه وتهشيمه.

لذلك، لم يختَر عون عن عبثٍ “حزبَ الله” وفائض قوته المسلحة، حليفاً للوصول إلى الرئاسة الأولى، ليقينه بتماهي استراتيجيتهما المشتركة لنسف إتفاق الطائف، على الرغم من أن ثمة اختلاف بين رؤيتي الحزب وعون حول بديل الطائف، فرسخا تلك الرغبة المشتركة باتفاق “مار مخايل” الذي شكّل خارطة طريق لتحقيق هدفيهما، من خلال تزاوج السّلاح والدّولة.

والأمانة تقتضي الإعتراف بأنّ الثنائي عون – “حزب الله” قطعا شوطاً كبيراً في مخطّطهما، بعدما برع الحزب في توظيف عون من موقعه الرئاسي وخلفه فريقه السياسي والاستشاري كرأس حربة لهدم الطائف، فبرع في إستخدام هذا الغطاء عبر إنهاك وإضعاف رئاسة مجلس الوزراء وإنتظام المؤسّسات، وعلى وجه التحديد، الإمعان في الإستهانة وتهميش مقام رئاسة الحكومة، وإستنزاف رؤساء حكومات أصيلين ومُكلّفين، بحيث أبدعَ بفضل الاجتهادات “الجريصاتية” بما لم يسبقه عليه أحدٌ من خرق وقح ومتعمّد للدستور من خلال تأجيل الاستشارات النّيابيّة المُلزمة تحتَ غطاء “التوافق” أو معرفة الإسم الذي سيسمّيه النّوّاب سلفاً، وبلغت به ذروة الإساءة السافرة الى مقام الرئاسة الثالثة، أن شكّلَ حكومةً وأرسلها بواسطةِ درّاجٍ إلى سعد الحريري يومَ كانَ الأخير مُكلّفاً.

كلّ هذه الطّامات التي تضرب صميم الدّستور، ومارسها عون وفريقه وبغطاء وتنسيق متلازمين مع “حزب الله”، كان هدفها الأوحد تهيئة واقع سياسي جديد ينادي بتعديل الطائف.

وعليه، يمكن فهم أبعاد الفراغ الرئاسي الذي يلجأ إليه “حزب الله” مع كلّ إستحقاق رئاسي، ضارباً عرض الحائط بالمهل الدستورية لانتخاب الرئيس، مع تعمّده تعطيل عمل السلطات وجعلها رهينة لوظيفة سلاحه، حتى غدت حكومات تصريف الأعمال القاعدة وليست الاستثناء.

فالرئيسان ميشال سليمان وميشال عون لم توفر أجواء إنتخابهما إلا بعد فراغ دستوري. وقد استدعى فراغ عام 2007 مؤتمراً في الدوحة للاتفاق على ميشال سليمان رئيساً، بعد غزوة “حزب الله” لبيروت والجبل في ٧ أيار ٢٠٠٨ المشؤوم، الذي فرض الثلث المعطل في يد “المعارضة” حينذاك، للإمساك بالسلطة الإجرائية والإطاحة بها متى قرّرت ذلك، كما حصل عندما استقال ثلث الوزراء يوم كان رئيس الحكومة يهم بالدخول إلى البيت الأبيض.

أما فراغ 2014 – 2016 فلم يترك “حزب الله” وقتها سبيلاً إلا انتخاب عون رئيساً، حتى بلغ تمسّكه به حدّ رفض انتخاب حليفه وحليف النظام السوري التاريخي سليمان فرنجية، مما تسبّب بإطالة أمد الفراغ في تعطيل المؤسّسات وإضمحلالها، وإنهيار المرافق العامّة واختفاء الخدمات العامّة، وجعل صياغة سياسات اقتصادية وقطاعية عملاً مستحيلاً.

وهذا التعنّت، دفع رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع إلى إبرام إتفاق مع العماد عون، سمّي بـ “اتفاق معراب”، مهّد لوصوله إلى قصر بعبدا، في محاولة من جعجع لقطع الطريق أمام فرنجية.

وأمام هذه المستجدات، ولأنّ الرئيس سعد الحريري كان قد أبلغ البطريرك بشارة الراعي، أنه يسير بأيّ إسم من المرشحين الأربعة الذين سمّاهم، في حال توافق اثنين من الأقطاب الموارنة الأربعة على واحد منهم، وفي مبادرة جريئة ومكلفة سياسياً وشعبياً، ولوضع حدّ للفراغ الرئاسي، في وقت كانت الحروب قد بلغت ذروتها في كلّ من سوريا والعراق، مع التخوف الشديد من انتقال حريقها إلى لبنان، قرر إبرام تسوية مع عون، عرفت بالتسوية الرئاسية، أفضت إلى انتخاب عون رئيساً، وتسمية الحريري رئيساً للحكومة، بحيث يمكن إعتبار هذه التسوية الرئاسية عام 2016 بمنزلة محاولة لفضّ هذا الاختلاف الذي قسم لبنان عمودياً على مدار سنوات عديدة.

لكن سرعان ما فشلت هذه التسوية في إتمام الوظيفة المرجوّة منها، بل ساهمت في فرض أعراف جديدة أثّرت سلباً على إدارة الشأن العام. وربّما يكون أسوأ ما أنتجته هذه التسوية تأليف حكومات غير متجانسة متعدّدة الأولويّات، إستحكمت فيها الخلافات الحادة، ومنعتها من أي إنتاجية.

ومع إنتهاء ولاية عون، والدخول مجدداً في الفراغ الرئاسي، معطوفاً على تعقيدات الأوضاع المحلية والخارجية، فإنّ الفراغ الحالي لن يكون كالفراغ الذي سبقه، لأنه سيفتح شهية رافضي اتفاق الطائف للإطاحة به، سواء تحت عنوان “المثالثة” لضمان حقوق الشيعة في النظام اللبناني، أو “الفيدرالية” لحماية المسيحيين من المتغيرات الديموغرافية، في حين أن السّنّة يعتبرون أنّ المشكلة في لبنان تكمن في عدم تطبيق البنود المتبقية من الاتفاق، وهي كافية لتبديد مخاوف جميع المكونات، وأنّه لا يمكن طرح أي تغيير في النظام قبل استكمال تطبيق ما تبقى من بنود…

فهل يكون فراغ بعبدا بعد عون مقدّمة لنسف الطائف أم مقدّمة لتطبيقه؟

يبدو أنّ “المواجهة” ستحتدم في سياق معركة تطبيق إتفاق الطائف أو تعديله أو نسفه في القادم من الأيام، الذي سيحمل نقاشات وورش عمل جدّية بشأن مستقبله من قبل جهات داخلية، تسعى كلّ واحدة منها الى إقتناص الفرصة لفرض طرحها حياله.

يترافق ذلك، مع حركة ديبلوماسية ملحوظة تحت سقف “بيان نيويورك الثلاثي”، الأميركي – الفرنسي – السعودي، الذي شكّل حماية دولية وأوروبية وعربية لاتفاق الطائف، بهدف التوصّل إلى تسوية لم تتبلور ماهيتها، من شأنها المحافظة على الطائف، مع توفير ضمانات (مكتسبات) للمطالبين بتعديله أو تغييره.

غير أنّ ذلك لا يجب أن يسقط من حسابات المتابعين الموقفين الروسي والإيراني من تلك الحركة الديبلوماسية، في حال لم يتمّ التشاور والتواصل وحتى التوافق معهما، إلا في حال أنّ قنوات الإتصالات مفتوحة معها لإنضاج التسوية “المؤجلة” إلى ما بعد الإنتخابات الأميركية النصفية.

ولأنّ الطبقة السياسية المحلية التي عطلت تنفيذ الطائف وفرّغته من مضامينه، غير جديرة بتنفيذه أو تعديله، فإنّ الفراغ مرشح للإطالة، وإتفاق الطائف معلق، بإنتظار نضوج الظروف لبلورة وإنتاج تسوية جديدة للبنان، “القاصر” وطنيّاً وسياسيّاً في إدارة شؤونه الداخلية وتسييرها.

شارك المقال