ماذا رأى الزائر المشتاق؟

محمد علي فرحات

يسقطون على حدّ الجريمة والغناء. جيوبهم مثقلة بالهدايا، وآذانهم باللعنات. ونراهم يفقدون مهارة القفز في براري وطنهم الجميلة بعدما فرت منهم العصافير وحشرات النبات المرحة، فقد وصلوا الى بوابة الجحيم.

لبنان الفاتن يسعون الى تحويله جحيماً لنا ولعبة من ألعابهم الملعونة التي تتجدد وننخرط فيها بوعي أو بلا وعي. يسعون وينجحون في سعيهم الشرير هذا، وقد بدأ لدى معظم اللبنانيين تزامل غريب في الهذر بلغات غير محددة. وطن يتحول الى بابل معاصرة وسهم الطائفية المسموم يسقط على أرضنا حاملاً قطرة من دم السماء. يثرثر البارزون أو يعبّرون بالايماءة فيما نحن الأبرياء نعتذر عن أخطائنا الصغيرة ونصلب عنهم، أولئك البارزين وأعوانهم المداهنين. أحدهم يتبذل فوق بقعة دم بشري، وآخر يبرهن أن نصف الجسد أجمل من جسد مكتمل. ويأتي ثالث يغطي القناع بالقناع، ناسجاً شرنقة لماعة وموصلاً البدايات بالنهايات ليراوح في النقطة الواحدة. ها هو ذا يختال وحيداً، أو أنه يترنح وحيداً، يستدعي الزواحف من جحورها ليقود موكب كائنات لم تر الشمس ويوزع البراءات على المشعوذين. هكذا يحقق تجلياته: يبني أصناماً ويهدمها ثم يعيد البناء راكضاً في حقول الماضي كأنما يكتشف قارة جديدة.

لعنة بابل حلت على لبنان وأتى يوم يفرّ المرء فيه من أخيه ومن أمه وأبيه. وفي الصراع الأول بين الأخوين قتل قابيل هابيل، وقد تجدد في الياذة هوميروس بين هكتور وأخيل. لم ينفع تغطيس الطفل في المياه الحافظة، فقد وصل السهم الى نقطة لم تصلها المياه. انها كعب أخيل ومقتله. لا بد للموت من نقطة عبور ولا بد للفتنة بين البشر من حكايات تعبر الزمان. ولبنان هو الحكاية التي تتجدد والمكان الذي يرشّح أبناءه الى الفرار نحو بعيد البعيد، لكن اللعنة تلحق بهم حتى نهاية العالم.

ذلك لأن الكراهية هي التي تجمع فيما يعجز الحب عن عقد لقاء بين القلوب، حين يغيب العقل عن انسان فيصير نصف انسان. والآن في لبنان محاولة جديدة للبناء وفق القواعد نفسها المؤدية الى الهدم. الأبطال هم أنفسهم، فكيف للذي هدم أن يبني حاملاً أفكار الخراب مثل وعود خلابة؟

هكذا البناء اللبناني الموعود سوف يتم، اذا تم، بالاسمنت المغشوش.

“الدم والكلور يفلتان من الأوردة في الحادية عشرة ليلاً ومثل نافورة”.

جملة وحيدة تطوي مسيرة نهار وليل في لبنان كما عاشها زائر مشتاق، أودت به عاطفته العائلية والوطنية الى حال لا يمكن وصفها كما لا يمكن تبريرها، ففي الأمر شبهة استعادة أفلام مصرية بالأبيض والأسود وما تتضمن من غرائب المفاجآت والابتعاد عن منطق الأشياء.

أنا الزائر المشتاق والدم والكلور يفلتان من ضوابطهما ليهطلا مثل مطر الخريف الواعد بالأحزان. وترى الشجر بلا ظلال، كما ترى البشر يتعثرون في طريقهم من حيث يتقصدون السير بثقة. كانوا مواطنين أو شبه مواطنين في دولة أو في شبه دولة، فصاروا عرضة لعبث الرياح ولتوارد أفكار لا يدرك أحد منطقها وحدودها.

كلمات البحث
شارك المقال