الترسيم البحري مع سوريا… وظيفة سياسية فاشلة

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

جاءت دعوة نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب، إلى التواصل “مباشرةً وعلناً” مع دمشق من أجل ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا، بعد توقيع لبنان اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بوساطة المفاوض الأميركي آموس هوكشتاين، واعتبار فريق العهد العوني وممانعيه التخلي عن مساحة بحرية واسعة للبنان ما بين الخطين 23 و29 انتصاراً ما بعده إنتصار، لكأنه حقق للبنانيين رفاهية العيش بكرامة وأزال عنهم غيوم الجوع والعتمة والمرض والاحتراق بنار الجحيم. تجديد الدعوة الى التواصل مع النظام السوري اليوم محاولة لاغراق حكومة تصريف الأعمال في ملف شائك يتعلق بوضع المنطقة ككل وبقرارات الجامعة العربية، ولا يمكن للبنان التفرد في الذهاب الى مفاوضات مع النظام السوري “من دون خجل”، وتمرير الترسيم البحري من دون البري حيث تستمر عمليات التهريب واستباحة الحدود، من ميليشيات النظام السوري و”حزب الله” الذي يملك العصا السحرية في تأمين نقل الكبتاغون والمحروقات والدولارات وكل ما يخطر ولا يخطر في البال.

دعوة بو صعب الى التواصل مع “الدولة السورية” تزيد تعيقدات الصورة وتأخذ الأمور الى ملف خلافي معقد يثير الانقسامات بين اللبنانيين، اذ لم يخجل من طرح فكرة الترسيم على الرغم من الصفعة التي وجهها النظام السوري برفضه استقبال وفد لبناني شكّله الرئيس السابق ميشال عون بغتة لبدء المفاوضات وهو يعيش أيامه الاخيرة في قصر بعبدا ويتخذ قراراته الدونكيشوتية ويمنح الأوسمة لأزلامه وممانعيه بدرجة مضحكة.

ويبرر بو صعب الحاجة الى الترسيم البحري مع سوريا بأنه “لا يمكن للبنان البدء بالعمل والتنقيب في الرقعتين البحريتين 1 و2 الواقعتين إلى الشمال من دون الترسيم”، مبشراً بأن “سوريا كدولة لديها مآخذ ومطالب”، وهذا يعني أن النظام السوري سيبتز اللبنانيين للحصول على ما يريد، وسيضع أمام أي حكومة لبنانية عراقيل من أجل منع استفادة لبنان ولو بالحد الأدنى الا وفقاً لمصالحه وعودة هيمنته من باب استخراج النفط.

الغريب أن قائد ملف الترسيم بو صعب لم يأتِ على ذكر الترسيم البري مرتع تهريب البشر والمخدرات والمهربين والمجرمين ومسلحي “حزب الله” وعصابات النظام. ولم يتذكر الرد الصاعق للحكومة السورية بأن الوقت غير مناسب، وهذه البرودة قابلها لاحقاً عدم حماسة الأجهزة الأمنية في لبنان لفتح الحوار مع سوريا من باب الترسيم البحري.

من الواضح أن اعادة الصلات مع نظام الأسد أرادها “التيار الوطني الحر” منذ بداية العهد العوني وحتى أفوله وبرعاية مباشرة من “حزب الله” لتعويم ترشيح الصهر جبران باسيل لملء كرسي بعبدا الشاغر حالياً.

كما أن تركيبة الوفد الذي اقترحه عون للذهاب الى التفاوض تألفت من المجموعة نفسها التي رسمت خطوط النفط مع اسرائيل، علماً أن ترسيم الحدود هو بالدرجة الأولى مهمة الجيش اللبناني، فمن صلاحياته ابراز خرائط ونقاط تقنية يمكن الافادة منها لصالح لبنان وهو لم يكن مجهزاً لها سابقاً، وواضح أن كل القضية افتعال ضجة بأنه وتياره يحسب لهما أنهما يريدان الحفاظ على ثروات لبنان التي لم يحسنا الحفاظ عليها في المفاوضات مع اسرائيل.

ظهر أن النظام السوري ليس في وارد ترسيم الحدود مع لبنان، فهو مكن الشركة الروسية “كابيتال” التي أخذت عقود تنقيب النفط لـ 37 سنة في البحر السوري، وهي شركة من أخوات “غازبروم” منحت حق الاستثمارات النفطية أي أن روسيا هي التي تقول كلمتها هنا، كونها تضع يدها على المفاصل الاقتصادية وهي التي ستفاوض في هذا الملف، لذلك بدا الموضوع مجرد مسرحية هزلية، أي الذهاب الى ترسيم الحدود البحرية مع سوريا الغير معنية بهذا الترسيم نتيجة الوجود الروسي، الذي لن يسمح باخراج الغاز حتى للبنان من المنطقة الشمالية، طالما أن هذا الغاز سيكون عاملاً تنافسياً لايصاله الى أوروبا عن طريق الدول المستثمرة للغاز بما فيها لبنان.

دعوة بو صعب هي دعوة سياسية للحوار مع النظام السوري وإخراجه من عزلته، وكأن لبنان صاحب القرار في ذلك، وهو أصلاً لم يستطع حل مشكلاته الحدودية مع سوريا بدءاً من مزارع شبعا، التي يقول النظام السوري انها لبنانية وفقاً لوثائقه التي لا يسلمها الى الأمم المتحدة لغاية في نفس يعقوب، وهي ابقاء مبرر سلاح “حزب الله” الذي حماه من السقوط مدعوماً من ايران، الا أن الغريب العجيب في الصورة أن هذا الحزب الذي قال ان سلاحه وصواريخه لتحرير المزارع المحتلة هو نفسه من فتح بوابة التطبيع النفطي الممهد للتطبيع السياسي مهما جرى النفي والتواري خلف شعارات ووعود مستقبلية لا يصدقها مجنون فكيف بإنسان عاقل عن ازدهار لبنان المنتظر من وراء الاتفاق مع اسرائيل؟ لأن العالم في واقع الحال، يدرك أن منظومة الفساد وتقاسم الحصص لن تبقي للبنانيين شيئاً.

ثم إنه في تركيبة الحدود الشمالية لسوريا مع لبنان، هناك تداخلات وكثير من المشكلات، فلا يمكن للبنان الجلوس على طاولة الأسد والدخول في استعراض بهدف التطبيع مع النظام وأخذ الدولة اللبنانية الى سوريا تحت حجة الترسيم.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل استعدّ لبنان من أجل هذا الترسيم وما هي الوثائق التي يجب أن تتوافر ويحملها أي وفد مفاوض ومن أين سيزود بها ووفق أي مسح مستحدث للجيش اللبناني؟ ومن هي اللجنة التقنية التي يجب أن توافق أو ترفض؟ وماذا عن ترسيم الحدود البرية حيث هناك أكثر من 127 معبراً غير شرعي مشرعة للتهريب وكلها تقع تحت نفوذ “حزب الله”، حتى داخل مناطق سورية هجّر أهلها بالقوة والغالبية لجأت الى لبنان بعد سيطرة الحزب على الممتلكات واقامة مشاريع يستفيد منها من مصانع الكبتاغون الى مصانع السلاح والتدريب وحتى الزراعة؟

ما يعاني منه لبنان هو المعابر البرية التي استباحها “حزب الله” وميليشيات ايران وصارت مناطق خارجة عن القانون، والسؤال: هل سيكون “حزب الله” مستعداً لتسليم ممتلكات السوريين؟ وهل سيتوقف عن تأمين الغطاء للمهربين الذين يدخلون ويغادرون عبر الخطوط العسكرية وغيرها من دون حسيب أو رقيب؟

يبدو أن عون بدأ فعلياً يقود البلاد من الرابية بعد مغادرته قصر بعبدا الى جانب صهره وعبر تياره السياسي، وهم يسوّقون لسياسات واتفاقات لا طعم لها ولا لون ولن ينجحوا في فك الحصار عن الأسد، واللبنانيون قادرون على صد المحاولات اليائسة للاتيان بباسيل رئيساً.

شارك المقال