حسن نصر الله… رئيس على قياسي!

أنطوني جعجع

ليس صحيحاً أن حسن نصر الله يتطلع الى رئيس لبناني لا يطعن “المقاومة الاسلامية” في ظهرها ولا يتآمر عليها، بل الصحيح أنه يتطلع الى رئيس يحتاج الى سلاح “حزب الله” ومظلة أمينه العام لا الى أي سلاح آخر أو مظلة أخرى.

وفي معنى آخر، أراد نصر الله أن يذكر الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل بطريقة غير مباشرة، بأن الفضل يعود اليه في إحباط “ثورة ١٧ تشرين” التي كادت تطيح العهد، وفي إنجاز اتفاق الترسيم البحري الذي عوّم العهد قبل أيام من أفوله، وفي تحميل أميركا المسؤولية عن كل المصائب التي لحقت بلبنان في محاولة لنفض يديهما من مغبة التحالف مع محور الممانعة وانعكاساته السلبية على كل المستويات.

وليس صحيحاً أن حسن نصر الله لا يريد الفراغ في موقع الرئاسة الأولى، وهو الذي يستخدم هذا السلاح منذ انسحبت سوريا من لبنان في العام ٢٠٠٥، بل الصحيح أن الفراغ يشكل في البرلمان الجديد السلاح الوحيد الذي يملكه لكسب الوقت تمهيداً لفرض الرئيس الذي يختاره في أفضل الأحوال أو يوافق عليه في أسوأ الاحوال.

والواقع أن عون غادر القصر الجمهوري تاركاً حليفه الشيعي عالقاً بين حليفين لا يستطيع ترئيس الأول بالحسنى ولا ترئيس الثاني بالقوة ولا القبول بأي مرشح من سلة أخرى لا يتحكم بها في الخطوط العريضة، لا بل عالق بين حليف تنازل عن حظوظه الرئاسية من أجل ميشال عون هو سليمان فرنجية، وحليف لا يتنازل عنها كرمى حسن نصر الله هو جبران باسيل.

ومن يتمحص جيداً في خطبة نصر الله يدرك أن الرجل أطلق سهاماً عدة في اتجاه باسيل من دون أن يسمّيه، معدداً مواصفات عدة للرئيس العتيد لا ينطبق معظمها على الصهر الطامح بقوةٍ تلامس حدود الوقاحة الفجة، وأبرزها “خاصية الأمان”، هو الذي طعن كل من تحالف أو تفاهم معه في الشوارع المسيحية والسنية والدرزية معاً وتجاوز مرات حدود التفاهم مع “حزب الله” نفسه.

وتقول أوساط قريبة من “حزب الله” انه ينظر الى الرجلين هذه المرة من زاوية أخرى مختلفة، وهو الانطباع القائم في أوساط الرأي العام اللبناني، مشيرة الى أن الميزان الشعبي يبدو أكثر ميلاً الى فرنجية منه الى باسيل.

وتضيف: ان حسن نصر الله المتهم بالتغطية على معظم ملفات الفساد في لبنان، مقتنع بأن باسيل بعد عون الرئيس، تحول الى زعيم تيار محدود في المكان والزمان، والى حيثية مثقلة بالاتهامات والعداوات والعقوبات، وأن الرهان عليه قد يجره الى مزيد من الهبوط الشعبي ومن المطبات الأمنية التي لا تخدم استراتيجيته سواء في لبنان أو في المنطقة، خصوصاً في ظل سلاح معتكف في الجنوب منذ العام ٢٠٠٦، واتفاق بحري مع اسرائيل ساهم فيه على الرغم مما شابه من شكوك ومآخذ وتحولات.

ولا يعني هذا الأمر أن نصر الله مصرّ على فرنجية وحده مكرراً الخطأ الذي ارتكبه قبل ست سنوات عندما أخلى الساحة للجنرال، اذ أن كلامه عن الجيش اللبناني وعقيدته الوطنية، أوحى بأن الباب مفتوح أمام قائده جوزيف عون كورقة متاحة للتفاوض والتوافق في حال تعثرت فرص فرنجية وتجاوب الجنرال الجديد.

وبهذا يكون نصر الله انتهج الخطة نفسها التي انتهجها الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما وضع سليمان فرنجية الجد في الواجهة للتغطية على المرشح الحقيقي مخايل الضاهر.

من هنا، ندرك أن حسن نصر الله وضع حداً فاصلاً بين مصلحته ومصلحة لبنان، وبين همومه وهموم اللبنانيين، وحداً آخر بين اختيار رئيس يناسب الدويلة ورئيس يناسب الدولة، معتبراً “حزب الله” بيئة منفصلة عن البيئات الأخرى، وقوة ضاربة تتعامل مع كل الآخرين تحت شعار: الأمر لي سواء كنت غالباً أو مغلوباً أو متعادلاً كما هي الحال الآن في البرلمان الجديد.

وجل ما يريده “حزب الله” من الرئيس العتيد، أن يحكم بما تيسر بعيداً من عالم الضاحية، فلا يطالبه بالتزام النأي بالنفس ولا يضغط عليه في تحقيقات المرفأ، ولا يشير الى القرار ١٥٥٩ لا من بعيد ولا من قريب، ولا يعمل لبناء جيش مهاب يقارع “حزب الله” أو يقاتله أو يحل محله، ولا يطعن في شرعية سلاحه ولا يسحب منه أي ذرائع يتلطى خلفها للاحتفاظ به، ولا يفتح جسور تواصل جدية مع خصومه وفي مقدمهم الولايات المتحدة والسعودية.

هذا في لبنان، اما في مكان آخر، فلا يبدو الأمر أفضل حالاً، في وقت تعاني ايران ثورة شبابية لم تشهدها منذ قيام الجمهورية الاسلامية في العام ١٩٧٩ لا بل ما يشبه الانقلاب المدني الذي يطاول مؤسسي هذه الجمهورية وعرابيها، وفي وقت تعاني توتراً مع أميركا أعاد الاتفاق النووي المنشود الى الأدراج، وشبه قطيعة مع أوروبا ناتجة عن تورطها في الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة والاجراءات القمعية العنيفة التي تواجه بها المتظاهرين في المدن والشوارع الايرانية من جهة ثانية، وخلافاً جذرياً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي اكتشفت ما يثبت أن طهران تسعى الى صنع قنبلة نووية، وقطيعة مع السعودية التي تتهمها بتأجيج الثورة في ايران والتدخل لمصلحة المعارضة في لبنان.

لكن أكثر ما يقلق نصر الله المطوق من الأميركيين والسعوديبن في لبنان، هو وصول اليمين الاسرائيلي المتطرف الى السلطة بقيادة بنيامين نتنياهو الذي سبق عهده المتجدد بطلعات جوية كثيفة فوق مناطق “حزب الله” ترجمها في الأمس بغارات على مواقع ايرانية في سوريا. وتشير أجواء نتنياهو الى أنه فاز في الانتخابات الأخيرة استناداً الى عامل أساس وهو اعتقاد الاسرائيليين أن اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان تم تحت ضغط “حزب الله”، وهو أمر ستحاول الحكومة اليمينية المتطرفة تطويقه من خلال عرض عضلات يؤكد لـ “المقاومة الاسلامية” أن اسرائيل لن تكون أسيرة الاتفاق ولا رهينته وأن ما كان يجوز قبله يجوز بعده.

وأكثر من ذلك، يجمع المراقبون على أن الصوت العالي في مواجهة أميركا جاء عشية الانتخابات النصفية التي كان يتخوف نصر الله من أن تعيد نفوذ الرئيس السابق دونالد ترامب الى مراكز القرار في واشنطن، اضافة الى الانسحاب الروسي المفاجئ من مدينة خيرسون الأوكرانية في خطوة جعلت التحالف الايراني مع موسكو رهاناً غير مثمر أو في غير محله على الأقل.

وفي اختصار، لا يبدو “حزب الله” في موقع القوة الذي يوحي به أو الذي يحاول تسويقه في الداخل والخارج، بل في موقع متقلب لم يبق لديه الا ورقتين في كل من لبنان حيث يحاول من خلال الفراغ الرئاسي فتح ثغرة في الجدار الدولي الخانق، وفي غزة حيث يحاول من خلال صواريخ المنظمات الموالية لايران، التعويض عن الجبهة اللبنانية التي لم تعد صالحة للقتال في أرض باتت تشكل بالنسبة الى العالم “الدجاجة التي تبيض ذهباً”.

وفي اختصار أيضاً، يجد “حزب الله” نفسه عالقاً في حقل ألغام يمتد من ايران الى لبنان، وأنه لا يملك ترف الوقت الذي يسمح له بأي تهاونات أو تسهيلات أو مخاطرات، معتبراً أن أفضل السبل لديه في مواجهة هذا المأزق، هو إفهام واشنطن والرياض أن القرار الأخير يبقى في يد طهران وحدها، وإفهام المعارضة والموالاة معاً أن لا مصلحة تعلو فوق مصلحته، ولا رئيس لا يشبه بابراك كارميل، ولا أمن يتقدم على أمنه وأمانه وبعد ذلك الطوفان.

شارك المقال