“حزب الله” – باسيل… هل أتت الساعة؟

أنطوني جعجع

ما قاله الجنرال ميشال عون في “حزب الله” قبل الرئاسة وما قاله حسن نصرالله في زعيم “التيار الوطني الحر” قبل “اتفاق مار مخايل” لا يؤسس لتحالف جدي طويل الأمد وغير قابل للسقوط، فلا الأول رأى في الثاني ما يشبهه، ولا الثاني رأى في الأول ما يركن اليه.

والسؤال هنا، ماذا تغير كي يصبح الجنرال رئيساً والصهر وريثاً طبيعياً، ويصبح حسن نصر الله عراباً والسلاح حارساً أميناً؟ وماذا تغير كي يصبح شعار “الجيش هو الحل” شعاراً هوائياً، وتصبح “المقاومة” الميليشيوية شعاراً ثابتاً يكاد يتجذر في الدساتير والأعراف؟

كل شيء تغير في شكل دراماتيكي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اذ أن ما كان اقتناعاً في دمشق والضاحية وطهران بأن اغتيال الرجل سيمر كما مرت اغتيالات كثيرة سابقة، لم يطابق حسابات الجناة الذين لم يتنبهوا الى أن جريمتهم تمت في ظرف دولي دقيق أعقب كارثة “الحادي عشر من أيلول” والحملة العسكرية الدولية على معاقل الارهاب والتطرف في غير مكان.

ولم يتنبه هؤلاء أيضاً الى أن الحريري لم يكن رجلاً عادياً، وأن المجتمع اللبناني في تلك الفترة بلغ من الضيق والتضييق حداً جعله جاهزاً لأي انتفاضة أو ثورة على الاحتلال السوري في أي لحظة سانحة.

تلك اللحظة جاءت في “الرابع عشر من آذار”، وشكلت مقدمة لخروج الجيش السوري من لبنان، ووضع سلاح “حزب الله” على الطاولة، وحشره في الزاوية الصعبة حزباً معزولاً لا حلفاء له ولا نوافذ على العالم.

لن ندخل هنا في سردٍ لما جرى بكل تفاصيله، لكن شيئاً ما حتّم على الجنرال والسيد أن يلتقيا، إذ أن الأول لم يجد بين قوى “الرابع عشر من آذار” من يمشي به رئيساً للجمهورية، ولم يجد الثاني فئة لبنانية واسعة قابلة للانفتاح عليه سوى الجنرال الطامح الى المقعد الأول بأي ثمن.

لقد كان حسن نصر الله يردد في كواليسه، في ما يتعلق بالموارنة: أعطوهم الرئاسة وخذوا منهم ما تشاؤون، معتبراً الجنرال عون الماروني الأكثر جموحاً نحو قصر بعبدا والأكثر استعداداً لتقديم ما يتطلب من تنازلات وصفقات وفي مقدمها، نقل “حزب الله” من حال “الشيطنة” التي أعقبت اغتيال الحريري الى حال “المقاومة التي تحمي لبنان”، ونقل السلاح من حال الاغتيالات الى حال الضمانات، فضلاً عن طمس أي قانون دولي يتعارض مع “عسكرة حزب الله” وتحديداً القرار ١٥٥٩.

والواقع أن عون لم يخلف بأي من وعوده، فغطى غزوة “الثامن من أيار” وكاد يتبناها، وبرر لـ “حزب الله” مقتل الطيار سامر حنا، وقطع الطريق على أي محاولة لجعل الجيش اللبناني القوة العسكرية الوحيدة العاملة في البلاد، وساهم في تحجيم النفوذ السني من خلال إسقاط الحكومة التي كان يرأسها سعد الحريري، ومن خلال الوقوف مع سوريا في مواجهة كل العرب، وقابله حسن نصر الله بحماية عهده، تماماً كما حدث خلال “ثورة ١٧ تشرين”، وتأمين حصته الوازنة والثابتة في الحكومات المتعاقبة وفي البرلمان اللبناني معاً.

جبران باسيل لم يكن بعيداً من كل هذه الخدمات المتبادلة لا بل في صميمها، وتحول من مجرد فتى مجهول الى حيثية معروفة في مكان ومهابة في آخر، يكاد أي شيء في البلاد لا يمشي من دونه أو من دون “بركته”.

وبعيداً أيضاً من السرد، نصل الى المرحلة الحالية لنسأل عما تغير كي يتحول باسيل بعد انتهاء عهد عون الى قنبلة موقوتة داخل معسكر الممانعة وكي يتحول حسن نصر الله من “حاضن صبور” الى حاكم حانق يعتبر أن الفتى بلغ حداً من الرعونة لم يعد يطاق أو حداً من التحدي لم يعد مسموحاً أو مقبولاً.

ما تغير، أن باسيل يصر على القراءة في كتابه الخاص، ويراوح مكانه الذي كان عليه منذ دخوله السلطة المباشرة في العام ٢٠١٠. وما تغير أيضاً أن “حزب الله” لم يعد كما كان عليه قبل انتخاب عون رئيساً، فهو لم يعد يملك الغالبية النيابية، ولم يعد يتمتع بترف الوقت الذي يسمح له بهدر ما يشاء منه من دون أي تداعيات أو انعكاسات.

وأكثر من ذلك أن ايران نفسها لم تعد كما كانت قبل ست سنوات، عندما كانت تضغط على أميركا والغرب والعرب بملف السلاح النووي في مكان، ونفوذها المتفجر في كل من اليمن والعراق وغزة وسوريا ولبنان في مكان آخر.

وأكثر من ذلك أيضاً، يعرف حسن نصر الله أن ما يجري في ايران منذ أربعة أشهر، ليس أمراً بسيطاً يمكن إخماده كما أخمدت انتفاضات مماثلة من قبل، ويعرف أن الاحتجاجات هناك تكاد تخرج عن السيطرة بعد امتدادها الى نحو ٦٠ مدينة وبينها العاصمة وانفلاشها على كثير من المرافق الاقتصادية والمالية والسياسية والأمنية والعسكرية والدينية وحتى العائلية.

ويعرف حسن نصر الله أن أي خلل في النظام الايراني سينعكس خللاً على هيبة “حزب الله” وموقعه في لبنان، وأن انهيار الثورة الاسلامية في طهران سيعني حكماً انهيار الدويلة الشيعية التي يبنيها في البلاد، ويعرف تحديداً أنه يخوض سباقاً مع الوقت لا يسمح بالتلهي في أي مكان أو مراعاة أي كان أو التنازل لأي كان.

ما يريده “حزب الله” الآن، ويريده بالحاح، انتخاب رئيس من معسكره وبأقصى سرعة ممكنة واعادة الانتظام الى المؤسسات الرسمية ليس حباً بالديموقراطية اللبنانية بل خوفاً من استغلال الفراغ القاتل لخربطة الوضع الداخلي، ومن احتمال التورط أو التعرض لاشتباك اقليمي كبير يضطر الى مواجهته مكشوف الظهر.

وقد برزت بوادر هذا الاشتباك المحتمل مع تحذيرات اسرائيلية من احتمال ضرب مطار رفيق الحريري الدولي رداً على شكوك بتحويله الى مهبط للطائرات الايرانية التي تنقل أسلحة متطورة ودقيقة الى “المقاومة الاسلامية” في لبنان بعدما بات نقلها براً عبر الأراضي السورية عرضة لغارات اسرائيلية متلاحقة، اضافة الى تكون رأي عام دولي يميل الى تبني العمل العسكري ضد ايران اذا لزم الأمر.

وقد يسأل أحدهم، ألا يستطيع جبران باسيل أن يوفر مظلة الأمان التي يحتاج اليها “حزب الله”؟ الجواب: طبعاً لا لسبب واحد جوهري الى جانب أسباب أخرى أقل أهمية، وهو أن حسن نصر الله يتطلع الى رئيس يجلب له الكثير من الأصدقاء لا الكثير من الأعداء، ورئيس يملك من الحكمة ما يكفي لتهدئة الشارع والحؤول دون تكرار ما جرى في “السابع عشر من تشرين”، معتبراً أن سليمان فرنجية هو الأقدر على ذلك.

وثمة أسباب أخرى تتمثل في أن “حزب الله” غير مقتنع بأن باسيل تلقى عقوباته الأميركية نتيجة تماهيه معه فقط، بل أيضاً لتورطه في ملفات فساد ضربت الكثير من مقومات الاصلاح في لبنان والكثير من الرصيد الشعبي للبيئة الشيعية، ويرفض بالتالي أن يعتبر ذلك ديناً في عنقه يجب أن يسدده حكماً.

ويقول مصدر مقرب من “حزب الله” إن الأخير كان يعتبر نفسه مديناً للرئيس عون وحده وقد سدد هذا الدين، مشيراً الى أن “اتفاق مار مخايل” لا يشمل ورثة هذا الرجل أو ذريته.

ويضيف: ان حسن نصر الله يشعر بغضب، لا يزال مكتوماً حتى الآن، من تحديات باسيل ومكابراته التي تسرق الوقت الثمين الذي يحتاج اليه في هذه المرحلة الثمينة والدقيقة، معتبراً أن هذا الصبي بلغ من الغرور حداً يكاد يدمر الهيكل على رؤوس الجميع.

ويشير المصدر الى أن الجرة انكسرت بين الفريقين، لكن “حزب الله” يرفض حتى الآن اصدار ورقة النعي، احتراماً أولاً للرئيس ميشال عون، وثانياً لأنه لا يزال يعتبر أن الساعة التي يفصل فيها جبران باسيل من خانة أصدقائه لم تأتِ بعد، وثالثاً لأن الأجواء التي تسمح بترئيس فرنجية من دون “التيار الوطني الحر” لم تنضج بعد، ورابعاً لأن الثقل المسيحي البديل لم يتوافر بعد في انتظار ما يتردد عن اتصالات سرية بين “حزب الله” وعدد من الأحزاب والفاعليات المسيحية.

ويختم: إن ما لا يعرفه باسيل أو ما لا يعترف به على الأقل، أنه لن يستطيع أن يكون بشيراً آخر، وأن كل من حاول من قبل أن يلعب دور البطل بات في خبر كان، وأن “الغالبية” النيابية التي يتغنى بها ليست كلها من صنع يديه، وأن الكثير من أركانها كان من صنع “حزب الله” في مكان وحركة “أمل” في مكان آخر، الأمر الذي يحوّله من دائن وهمي الى مَدين فعلي وينذره بأن الوقت حان كي يسدد ما عليه، وبأن “الدلال” الذي تمتع به في عهد عمه فقد صلاحيته وانتقل الى “محظي” آخر لزمن آخر.

شارك المقال