بين العاقبية والعقاب أين “حزب الله”؟

أنطوني جعجع

إنه الانتقال الفج من دولة “فتح لاند” التي احتضنت في الجنوب كل حَمَلة السلاح في المنطقة والعالم، الى دولة “حزب الله لاند” التي لا تقبل شراكة مع أحد سواء كان جندياً شرعياً أو فلسطينياً أو سورياً أو أجنبياً أو عربياً أو حتى مدنياً لبنانياً لا يواليه أو يتعاطف معه سواء كان من هذه الطائفة أو من ذلك الحزب.

انها أيضاً الأعصاب المشدودة التي تتحكم بتصرفات “حزب الله” منذ اندلاع “الثورة المضادة” في ايران، واليد المتحفزة التي ضغطت على الزناد في لحظة فاصلة لتقتل جندياً دولياً في الجنوب وتضرب سلطة الأمم المتحدة في واحدة من أكثر الظروف الدولية والاقليمية دقة وأكثر مناطق العالم عدائية وحساسية.

فما جرى في العاقبية، لم يكن من فعل الصدفة أو خلافاً على أفضلية المرور مهما حاول “حزب الله” التملص منه، ومن أطلق النار ليس “قروياً” عادياً هاله مرور “غرباء” في قريته، بل قاتل محترف يحمل أوامر بفتح النار بنية القتل وليس بنية الترويع أو التحذير على طريق تعتبرها “المقاومة الاسلامية” خزاناً شعبياً لمقاتليها أو مخزناً خفياً لسلاحها.

ومن سقط في العاقبية لم يكن عدواً أو عميلاً أو مخبراً أو جاسوساً أو داعشياً أو من “جنود الرب”، بل كان جندياً دولياً حطّ في لبنان بموافقة “حزب الله” الذي كان يتهالك لانهاء “حرب تموز” بأي ثمن ووفق أي قرار دولي وعبر أي دولة أو منظمة أو وسيط.

ومن سقط هناك أيضاً كان يعمل لصون الهدنة التي ارتضاها “حزب الله” مع اسرائيل، لا ليبحث عمن يصون سلامه الشخصي وهو يعبر طريقاً مفخخاً أو قرية “مسحورة” سواء تائهاً أو زائراً أو عابراً أو قاصداً، أو ليتحول الى ما يشبه “السجين” المحشور في منطقة لم تعد قطعة من لبنان ولا جزءاً من الشرعية الأمنية اللبنانية.

ويقول مصدر قريب من قوات “اليونيفيل”: “ما نعرفه في الأخبار وحسب، أن ليس في الجنوب مناطق حصرية لحزب الله، والا فلينسحب الجيش اللبناني الى ما قبل العام ١٩٢٠ ومعه كل ما يرمز الى دولة لبنان الكبير، ولتنصب الحواجز عند أبواب الدامور لمنع الانتقال الى الجنوب لغير أهل البيئة الشيعية الحاضنة والمتعاطفة”.

أما غير ذلك، فلا شيء يدل على أن ما جرى لم يكن كميناً محكماً يعرف مسلحوه ماذا يفعلون ومن يستهدفون وتداعيات ما يمكن أن ينتج عن تحدٍ دموي مباشر كهذا.

والواقع أن ما جرى في العاقبية يهدف ربما الى واحد من ثلاثة أمور: أولاً اخلاء الجنوب، بعدما انتفت أسباب الحرب مع اسرائيل، من أي جسم “غريب” أو نافر سواء كان من عناصر “اليونيفيل” أو من بيئات غير شيعية، تماماً كما يحدث من قضمٍ ومصادرات في منطقة رميش، وذلك تمهيداً لتحويله الى كيان شيعي خالص يديره “حزب الله” منفرداً على غرار ما فعلت حركة “حماس” في غزة، والثاني الضغط على المجتمع الدولي المتهم بتأجيج الثورة المضادة في ايران وترويعه انطلاقاً من الجبهة اللبنانية، والثالث قطع الطريق على أي محاولة من الأمم المتحدة للتدخل في لبنان بناء لدعوة من بعض المعارضة ومن البطريرك بشارة الراعي المصر على تدويل الأزمة اللبنانية وسحبها من الدرج الايراني.

لكن ثمة أمر رابع ربما يكون من ضمن سلة الأهداف المحتملة وهو تحذير الأمم المتحدة من أي محاولة لتوسيع القرار ١٧٠١ أو تعديله بهدف الانتشار على الحدود البرية التي تحولت معبراً أساسياً لأعمال التهريب بين لبنان وكل من سوريا وايران، وشرياناً أساسياً يضخ الحياة في اقتصادات الضاحية ومحور الممانعة.

وأكثر من ذلك، هدفت واحدة من الرصاصات السبع التي أصابت الآلية الايرلندية الى إفهام من يدعم مرشحي المعارضة في العالمين الغربي والعربي، أن هذا الرهان غير قابل للحياة، وإفهام من يعوّل على الخارج في معركة الرئاسة، أن عليه الاختيار بين رئيس يختاره حسن نصر الله أو السير في حقل ألغام ينتقل من مكان الى آخر ولا يوفر أحداً حتى لو أدى ذلك الى تدمير الهيكل على رؤوس الجميع.

وقد يقول قائل ان في هذا العرض بعض المبالغة والتجني، لكن فيه أيضاً الكثير من الوقائع التي لا تبرئ “حزب الله” مما جرى في منطقة لا يحلق فوقها طير من دون علمه، ومن هذه الوقائع تصفية الطيار سامر حنا في سحمر، وسبحة الاغتيالات التي بدأت في العام ٢٠٠٥ ولم تنته فصولاً بعد، اضافة الى مخازن الأسلحة التي ينفجر بعضها في ظروف غامضة وبينها العنبر الرقم ١٢ في مرفأ بيروت.

ويجمع عدد كبير من المراقبين على أن “حزب الله” ومن خلال “الأهالي” داس على أسوأ ألغامه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مؤكدين أنه وضع نفسه في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي الذي بات يعتبر الجنوب منطقة غير آمنة ويتعامل معه على أنه “تنظيم عدائي”.

ويضيف هؤلاء أن أي مجاملات أو وساطات قد يبذلها “حزب الله” أو أي مجالس عزاء قد يقيمها لنفض يديه مما جرى في العاقبية، لن تمر كما مرت صدامات ومناوشات سابقة، اذ أنه هذه المرة كان يعلم، وكان يعلم جيداً ماذا يريد، مؤكدين أن مطلق النار على الجنود الايرلنديين لن يتنعم بما تنعم به قاتل الطيار حنا، ولن يكون “مجهولاً” كما هو قاتل لقمان سليم، اذ أن مشكلته ليست مع القضاء اللبناني هذه المرة ولا مع الأجهزة الأمنية التي تتحاشى أي صدام أو تباين مع “حزب الله”، بل مع حرب على الارهاب أسقطت من قبل عماد مغنية وقاسم سليماني وسمير القنطار وسواهم، ولن تتوقف ما دامت ايران وحلفاؤها يطلقون النار في كل الاتجاهات، وما دامت طهران تعتبر لبنان الدرع الذي يتلقى عنها السهام أو المنصة التي تطلق ما لا تجرؤ على اطلاقه من منصاتها المنشغلة الآن على الجبهة الأوكرانية في مكان وشوارع ايران في مكان آخر.

شارك المقال