في ذكرى رحيل “الأفندي”… رجل دولة تفتقده طرابلس!

إسراء ديب
إسراء ديب

مرّ على مدينة طرابلس رجال استقلال شهدوا على أبرز المحطات الوطنية التي غيّرت المشهد السياسي الذي وصلنا اليه اليوم بأقبح حلّة وأبشع صورة طبعت حياة المواطنين لا سيما من الطرابلسيين الذين يعيشون أقسى لحظات جعلتهم يفتقدون الماضي الذي يُعدّ الراحل عمر كرامي جزءاً لا يتجزأ منه، وهو أحد رجالات هذه المدينة المعروفين بوطنيتهم الكبيرة وعروبتهم التي كانت ولا تزال خطاً أحمر يصعب تجاوزه على الرّغم من السيناريوات التي جزأت العروبة ولقبتها بما ليس فيها ووضعتها في خانة لا تُمثلها.

طرابلس مع عمر كرامي وقبله لم تعد كما بعده، وفي الواقع لقد تغيّرت كثيراً لا على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي فحسب، بل على المستوى السياسي والوطني أيضاً، ومهما وصل من أبنائها الى منصب وزاريّ من هنا، أو نيابي من هناك، فبعضهم بات عاجزاً عن تمثيل مدينته التي وصلت إلى “القاع” بسبب سياسيين لا يُغرّدون باسمها ولا يُنادون بقضاياها التي تُنذر غالباً بالأسوأ، بل باتوا يُركّزون في الآونة الأخيرة على كيفية تشكيل تحالفات انتخابية وسياسية تمدّهم بمزيد من المكاسب التي باتت بدورها خاسرة أمام شعبيتهم المتراجعة.

وفي ذكرى رحيله الثامنة، يُمكن القول إنّ “الأفندي” رجل سياسي بامتياز، لم يستثمر دماء أخيه الرئيس الشهيد رشيد كرامي أو يستغلها، كما لم يستغل مدينته التي كان يُردّد قضاياها، مندّداً بتقصير رسمي أو مدافعاً عنها. ويرى بعض المطّلعين أنّه ظلم مدينته في الكثير من المواقف الحادّة التي اتخذها، لكن مع مرور السنوات قد يتضح أنّ كرامي، اتخذ مواقف وطنية قد تكون البلاد بأمس الحاجة إليها حالياً، وعلى الرّغم من صلابته الوطنية، إلا أنّه كان ديبلوماسياً وهي صفة لا يرى كثيرون أنّه يتمتّع بها، وإذا كان بعض المقرّبين منه يشيرون إلى محبّته لسياسي وقلقه من آخر، إلا أنّ كرامي شخصياً لم يُبدِ يوماً مصلحته أو مواقفه الشخصية على موقف سياسي ووطني قد تحتاجه البلاد.

عام 2015، وبعد صراع طويل مع المرض، فقدت طرابلس قيمة وطنية ورمزاً شمالياً كانت قد ألقيت على عاتقه مسؤولية كبيرة ناتجة عن رحيل الرشيد الذي اغتالته يدّ الغدر الطامعة عام 1987، ليحمل كرامي سيف المواجهة بنفسه ووحده قبل أن يُشاركه بعض الطامعين الحزبيين والاقليميين بها، ليكتب حلفاؤه قبل أعدائه نهاية كلّفته الكثير خصوصاً على الصعيد الطرابلسي، وأدّت إلى إسقاط حكومته أكثر من مرّة، الأولى في عهد الرئيس الياس الهراوي ثمّ في عهد الرئيس إميل لحود حين استقال بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري ومع ارتفاع أصوات المحتجين غضباً، لكنّه لم يُحارب ولم يُشاكس أحداً كما لم يتحدى أيّ قوى سياسية وشعبية لاتخاذ قرار مصيريّ أزاح سيف المواجهة من بين يديه، ليتحوّل شخصياً إلى “كبش محرقة” استغلّه المقرّبون بعد تضحيات سياسية.

وفي فترات حساسة وحرجة وطنية، كان كرامي رئيساً للوزراء في لبنان، الأمر الذي جعله في حيرة من أمره وفي وضع لا يُحسد عليه بتاتاً، وعلى الرّغم من هذه الصعوبات والعراقيل، إلا أنّه كان يخجل من الواقع السياسي الذي وضع البلاد تحت وصاية قاهرة. وفي المراحل السياسية الأخيرة، يُؤكّد مقرّبون من تيّار “الكرامة” أنّ آل كرامي ليسوا مناصرين للنظام السوري، وأنّ هذا الكلام يستهدفهم للنيل منهم، في حين يُشير الواقع إلى أنّ النظام السوري الذي استخدم سياسيين لبنانيين لتنفيذ أجنداته ومصالحه، استخدم بعضاً من آل كرامي المنقسمين في ما بينهم سياسياً، ليكون عمر كرامي أحدهم، فبقي مناصراً للمحور السوريّ والعروبي وفق البيئة السياسية التي ترعرع عليها، الأمر الذي كان قد انعكس عليه شعبياً في المدينة.

ووفق الأوساط الطرابلسية، كان كرامي واجهة لهذا النظام فاستخدمه ثمّ تخلّى عنه في نهاية المطاف، وكما استُشهد الحريري عام 2005 بيد من تهرّب من العدالة، نقل النظام وحلفاؤه في لبنان كرامي إلى مثواه الأخير وهو حيّ يُرزق، على الرّغم من محاولته عدم تقديم تنازلات لأيّ طرف، ومع إعلان تمسكه بنهج عبد الحميد ورشيد كرامي الذي كان يُحمّله المزيد من المسؤولية خصوصاً وأنّ المحور الذي يُناصره ويُدافع عنه مكروه، وضع كرامي نفسه دائماً في خانة “الملام” طيلة فترة حكمه.

يُمكن القول، إنّ الإرث السياسيّ دمّر كرامي، أمّا التدمير الأكبر فكان على يدّ “حزب الله” وسوريا، فمن دفعه إلى الجلوس على طاولة واحدة مع رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع المتهم باغتيال أخيه، هو الفريق نفسه الذي نفذ أحداث 7 أيّار “المجيدة” عام 2008 القائمة على اجتياح وضرب الشارع السنّي الذي كان لا بدّ لكرامي أن يُمثله إلى جانب حليفه ليخسر “الأفندي” معركة انتخابية شرسة عام 2009، وحينها دعاه سياسيون إلى العودة إلى الثوابت، هو نفسه أيضاً من استبعده عن العمل السياسي بجملة عام 2011، وحينها قال الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله: “اتصلت بكرامي وقلت له أدبياً إنّنا نحتاج إلى موافقتك في حال إمكان الفوز للحصول على الغالبية المطلوبة لتسمية رئيس الحكومة… فشكرني كرامي وقال لي أشكر ثقتكم ولكن وضعي الصحي والوضع الحالي يحتاج الى نشاط وجهد وأرجو أن تجدوا خياراً آخر”، أيّ أنّ الحزب ألغى كرامي واستبعده عن العمل الحكومي ليردّ كرامي حينها باستغراب انتقد فيه الخطاب، وقال: “عندما استمعت الى السيّد حسن في الخطاب الذي رثاني فيه استغربتُ، اليوم أنا أمامكم وأستشهد بكم كإعلاميين، فهل ترونني مريضاً؟”، مضيفاً: “على كلّ حال، نحن في خدمة هذا البلد حتى آخر نفَس”، وبالتالي إنّ ردّه كان يُؤكّد أنّ لكرامي “المناصر” كرامة “مناهضة” لعملية إقصائه سياسياً.

أمّا عن نجله فيصل فقد كان ولا يزال مختلفاً عن والده قطعاً، وبقاؤه ناشطاً ضمن الميدان السياسيّ بتغطية حزبية معارضة، كان مكافأة بعد سنوات من تضحيات قدّمها والده لا أكثر وتغطية مستمرّة سنّياً لا سيما شمالاً.

وأخيراً، قد يتفق البعض على مناصرة كرامي وقد يُعارضه آخرون، لكن لا يمكن أن نغفل عن أنّ هذا الرجل كان قد شيّع بمأتم سياسي وشعبي أقفل المدينة التي رفعت فيها اللافتات والصور في مختلف مناطقها وحزنت على رحيله عبر مشاركتها في جنازة شعبية واسعة حمل فيها جثمانه على الأكف، وألقى فيها مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان خطبة لفت فيها إلى أنّه كان “يتمنى أن يزور طرابلس في غير هذا اليوم الحزين، الذي فقدنا فيه ركناً وطنياً من كبار هذا الوطن”.

شارك المقال