الاهتمام الفاتيكاني بلبنان… قضية حضارية نموذجية

هيام طوق
هيام طوق

ودّع العالم أمس البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر في مأتم مهيب في حاضرة الفاتيكان، هو الذي أوصى أن تكون جنازته متواضعة كما حياته، ليدخل الملكوت السماوي عن عمر يناهز 95 عاماً، أمضى معظمها في خدمة بيت الله وفي الصلاة والخشوع والتأمل والتواضع. ولم يتردد في التنحي عن منصبه ليصبح أول بابا يتخلى عن موقعه اختيارياً منذ أكثر من 600 سنة، اذ أنه البابا رقم 265 في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.

رأس جنازة البابا بنديكتوس، البابا فرنسيس، بمشاركة نحو 75 ألف شخص، واستذكره اللبنانيون حين زار لبنان سنة 2012، اذ كان بلد الأرز في قلبه ووجدانه، وأصر على زيارته في ظروف صعبة كانت تمر بها المنطقة حيث ساهم في بلسمة الجروح، وأعطى جرعة دعم للبنانيين للصمود ومواجهة المحن وعدم الاستسلام. وتكللت الزيارة بتوقيع الارشاد الرسولي الخاص بالشرق الأوسط في كاتدرائية القديس بولس في حريصا، حيث شدد الحبر الأعظم في مراسم التوقيع على أنه “لا يمكننا سوى أن نصر على التعايش بين المسيحيين والمسلمين في لبنان”.

السلام كان محور الرسائل الكثيرة والدعوات العميقة، التي وجهها قداسته خلال ثلاثة أيام فاض فيها إيمان اللبنانيين، وتحت عنوان “سلامي أعطيكم” بدأت الزيارة واختتمت، لكن صلوات الشعب المعذب لم تتوقف لأن درب جلجلته صعب وطويل ومليء بالأشواك والآلام، الا أن الآمال لا تزال موجودة انطلاقاً من الايمان بأن زيارات البابوات الى لبنان من البابا بولس السادس في طريقه إلى القدس، ومن ثم البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 الى البابا بنديكتوس ستثمر ثماراً جيدة، وتزهر ربيعاً في يوم من الأيام، كما أن البابا فرنسيس لا يوفر مناسبة الا ويستذكر لبنان، ويصلي لأجله ولشعبه للخروج من محنته وأزمته، وأعلن أكثر من مرة عن رغبته واصراره على زيارة هذا البلد الذي يكن له المحبة، والموجود في قلبه تماماً كمحبة اللبنانيين له، والذين ينتظرون مجيئه ليبث السلام والطمأنينة في نفوسهم، ويزرع الأمل والعزيمة في وجدانهم، والمحبة والتسامح في قلوبهم علهم ينتشلون بلدهم من الغرق.

على أي حال، لا بد من التساؤل: لماذا هذا الاهتمام الفاتيكاني بلبنان؟ ومتى نشأت هذه العلاقة الخاصة بين لبنان وحاضرة الفاتيكان؟ وهل لا يزال لبنان “أكثر من وطن، هو رسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب. لبنان هو أكثر من وطن، أكثر من بلد، انّه رسالة، رسالة العيش المشترك السوي بين المسلمين والمسيحيين، ورسالة للغرب الأوروبي والأميركي مثلما هو رسالة للشرق العربي والإسلامي، أي أنّه رسالة عالمية” كما أطلق عليه البابا يوحنا بولس الثاني؟

أوضح مصدر كنسي لـ “لبنان الكبير” أن “العلاقة بين لبنان والفاتيكان هي علاقة تاريخية بدأت بعلاقة الكرسي الرسولي مع الكنيسة المارونية منذ مأسستها ثم انتقلت لتتطور الى علاقة دولتية منذ العام 1920 ولو بصورة غير رسمية، لكنها في موازاة العلاقة الدولتية والكنسية هي علاقة حضارية اذ أن الكرسي الرسولي ينظر الى لبنان كقضية حضارية نموذجية في الحرية وحقوق الانسان والتعددية والعيش معاً، ويعتبر أن التلاقي المسيحي – الاسلامي خصوصاً في لبنان، نموذج يجب الاحتذاء به في المجتمعات التعددية”.

وأشار المصدر الى أن “الفاتيكان لعب دوراً أساسياً في انهاء الحرب الأهلية، وكان له الدور المؤسس في اتفاق الطائف الذي كرّس موجب الانتقال الى دولة المواطنة من خلال المادة 95 من الدستور، وقيام اللامركزية الادارية الموسعة وانشاء مجلس شيوخ ونزع السلاح غير الشرعي وحصره بيد القوى العسكرية والأمنية، وتحييد لبنان عن الصراعات الاقليمية والدولية. وبالتالي، بناء مسار أساس في السلام الوطني لكن أيضاً الاقليمي والدولي”.

أضاف: “الدور المؤسس الذي لعبه الفاتيكان في اتفاق الطائف لم يكن تفصيلاً، والقليل من اللبنانيين يعلمون هذا الدور حتى أن أفرقاء المنظومة السياسية بالكاد يذكرونه، لكن هذا الدور أتى من خلال قناعة بأن لبنان ينتمي الى الأسرة العربية والدولية، وبالتالي، يجب استعادة التوازن الداخلي برعاية عربية ودولية وتكريس روحية قيام دولة القانون ودولة العدالة والمؤسسات والمواطنة. لا ينظر الكرسي الرسولي الى لبنان على أنه وطن للمسيحيين بل هو وطن لكل اللبنانيين، من هنا يعتبر أنه قضية حضارية والا لما كنا شهدنا على اطلاق الكرسي الرسولي سينودوس خاص بلبنان، ومن ثم تكريس ارشاد رسولي خاص بلبنان وقعه البابا القديس يوحنا بولس الثاني في زيارته الى لبنان في العام 1997 والتي حملت بالاضافة الى الرسالة الروحية رسالة جيوسياسية، تلاقى فيها البطريرك الكاردينال الراحل نصر الله صفير مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لاطلاق شرارة تحرير لبنان من هيمنة الاحتلال والوصاية. ثم بطبيعة الحال، كان اختيار قداسة البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر زيارته الى لبنان في العام 2012 وتوقيعه على الارشاد الرسولي الخاص بسينودوس مسيحيي الشرق ليؤكد أيضاً على محورية الكيان اللبناني في تكريس رسالة الحرية والأخوة مع الاهتمام الاستثنائي الذي يكرّسه قداسة البابا فرنسيس للقضية اللبنانية أكان في مداخلاته أو في جدول أعماله بالتعاون مع أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين وأمين سر الدولة للعلاقة بين الدول المطران بول ريتشارد غالاغر، وما يقوم به السفراء البابويون في لبنان من دور مؤسس في ابقاء شعلة القضية اللبنانية مضيئة على المستوى العالمي خصوصاً في هذه المرحلة حيث العالم الحر لديه اهتمامات أخرى على أكثر من مستوى من أوكرانيا الى الأزمة الاقتصادية المالية العالمية وأزمة الطاقة والصراعات في الاقليم”.

أما المدير التنفيذي لـ”ملتقى التأثير المدني” زياد الصائغ فأكد أن “الفاتيكان يضع القضية اللبنانية في سلم أولوياته ويتحرك ديبلوماسياً بصورة جدية ليفعّل الرافعة العربية والدولية لانقاذ لبنان، وعبّر عن استياء كبير من الكلام عن حقوق المسيحيين فيما هناك حقوق للمواطنين والمواطنات اللبنانيين. وأشار الى العرقلة التي يتم القيام بها في تحقيق المرفأ، وتبنى مطلب أهالي الضحايا كما يعلم جيداً كيف أن البلد موجود تحت احتلال. وبالتالي، ولو أنه لا يمارس دوراً سياسياً، لكن الكرسي الرسولي يواجه خيار حلف الأقليات واستدعاء الحمايات والذي يناقض عملياً الصيغة الميثاقية اللبنانية، والخيار الحضاري للعيش معاً. وهو يواجه أيضاً خيارات التقسيم والانعزال والفدرلة، ويدعو الى تطبيق الدستور والقرارات الدولية وحياد لبنان عن الصراعات الاقليمية والدولية والانتقال الى دولة المواطنة مع خصوصية النظام التشاركي اللبناني، لكن على قاعدة الكفاءة ونظافة الكف بما يؤمن الخير العام لجميع اللبنانيين”.

في هذا السياق يشير مصدر كنسي مطّلع أنّه “يخطئ من يعتقد أن الكرسي الرسولي مقتنع بإنجاز حوار بعيداً عن الدستور، ينطلق من موازين القوى، ويخطئ من يعتقد أن أي تواصل مع الفاتيكان خارج الدستور والقرارات الدولية وخارج مبدأ الحياد هو حوار بناء، اذ أن الكرسي الرسولي حاسم في خياراته بالنسبة الى ما يعنى بصيغة لبنان الحضارية. والقضية اللبنانية بالنسبة اليه حاجة عالمية، وهو يؤدي دوراً فاعلاً لانقاذ لبنان، لكنه يتطلع الى الكفاءات والطاقات من مقيمين ومغتربين لتتلاقى معه على العملية الانقاذية، وتنظمها في دينامية داخلية واضحة المعالم”.

شارك المقال