كلمات أسمعت من به صمم!

صلاح تقي الدين

لم يمر على لبنان في تاريخيه القديم والحديث سياسي أكثر أنانية وغروراً من رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، الذي لا يرى في أي من المرشحين الموارنة لرئاسة الجمهورية الصفات المناسبة للموقع الأول في الدولة، ولا يعتبر أن أياً منهم يحق له الوصول إلى بعبدا عوضاً عنه، لكن المصيبة لا تكمن هنا بل في أنه إما أصيب بالصمم فلم يعد يسمع الانتقادات التي توجه إليه من كل حدب وصوب، أو أن غروره أغشى عينيه فلم يعد يرى أمامه إلا الكرسي الرئاسي.

لعنة حلت على لبنان وما على اللبنانيين إلا الصبر، فباسيل الذي لا يروّج لمواصفات رئاسية كما يزعم خلال لقاءاته التي يحاول من خلالها التعويض عما خسره بعد تجرؤه على معاندة اليد التي سمحت له ولتياره بالهيمنة على القرار السياسي اللبناني منذ وصول عمه العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، جلّ ما يفعله هو محاولة قطع الطريق على المرشحين المتداولة أسماؤهم في الأروقة السياسية أو الذين أعلنوا ترشيحهم إلى الرئاسة.

ليست جديدة محاولات باسيل التي أًصبحت عقيمة، بل في الواقع هي امتداد لما كان قد بدأه ما قبل نهاية ولاية عمه الرئاسية، فشن هجمات استباقية على كل “ماروني” مؤهل للوصول إلى قصر بعبدا، بدأها بحربه الشعواء على حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، من خلال التشهير به ومن ثم دفع قاضية العهد الأولى المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان غادة عون الى ملاحقة سلامة في الداخل، وتجيير علاقاته الأوروبية من أجل ابتداع ملفات قضائية بحق الحاكم في الخارج.

من المعروف أن تعيين العماد جوزيف عون قائداً للجيش كان بقرار حازم وحاسم من الرئيس عون على الرغم من معارضة باسيل لهذا التعيين، والمعروف أيضاً أن علاقته بقائد الجيش لم تكن سلسة طيلة الفترة الماضية نظراً الى معارضة عون تعيين محسوبين على باسيل في مراكز قيادية داخل المؤسسة العسكرية، غير أنها ساءت كثيراً منذ البدء بالترويج لوصول جوزيف عون إلى الرئاسة نظراً الى النجاح الذي حققه في قيادة الجيش وتمتعه بالصفات “التوافقية” التي يبحث عنها معظم الفرقاء السياسيين في الداخل كما في الخارج.

يمكن فهم معارضة باسيل لوصول رئيس تيار “المردة” النائب والوزير السابق سليمان فرنجية إلى بعبدا، نظراً الى الهالة الشعبية التي يتمتع بها والتي يمكن أن تتوسع وتزداد على حساب باسيل والقاعدة العونية في حال انتخاب فرنجية رئيساً، ومن هنا فإن الأعذار التي يبديها لتبرير رفضه بدءاً من أن فرنجية ينتمي إلى “الطبقة” الفاسدة نفسها التي يزعم باسيل أنه يحاربها، وأنه لا يتمتع بحيثية شعبية ونيابية تؤهله للمنصب الأول، قد تخدع البعض لكنها لا تخدع كثيرين فباسيل ليس نموذج الاصلاحيين الذين يجب البحث عنهم، كما أن العقوبات المفروضة عليه أميركياً هي بتهمة الفساد فهو إذاً لا يتمتع بالصفات التي ينكرها على فرنجية.

لم يترك باسيل خلال فترة رئاسة عمه فريقاً سياسياً إلا وتواجه معه حتى أنه لم يترك “للصلح مطرح” مع أحد، فوصفه لرئيس مجلس النواب نبيه بري بـ”البلطجي” لم يكن ليمر مرور الكرام على بري المحنك والسياسي الفذ الذي لم يكن باسيل “المبتدئ” عائقاً أمامه، كما أن “لحس” إمضائه على اتفاق معراب مع رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، جعله يغرق في مستنقع المنافسة على زعامة الشارع المسيحي وهو لم يبلُ جيداً في هذا المجال، إذ أن الانتخابات النيابية الأخيرة أثبتت بحق أن جعجع تفوق على باسيل في استقطاب هذا الشارع، غير أن ما زاد الطين بلة هو مواجهته مع الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله وإعلانه رفض تبني الحزب ترشيح فرنجية للرئاسة، فكان أن أعلن له نصر الله صراحة في خطابه المتلفز قبل يومين أنه إذا أراد الافتراق فلن يقف في وجهه، ويكون هو قد اختار إنهاء الحلف “الهجين” أًصلاً الذي عقده في كنيسة “مار مخايل” في العام 2006.

أصبح جلياً أن باسيل بدأ يشعر بالوحدة السياسية ولم يعد له من حليف يستند إليه، كما أن الأصوات المعترضة على أدائه تسللت إلى داخل تياره حيث بدأت أصوات فاعلة تعلن معارضتها للنهج الذي يمارسه، فراح يحاول الايحاء إلى “حزب الله” بأنه قادر على التواصل مع فرقاء الداخل من خلال اللقاء “العقيم” الذي عقده مع رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، ومع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، كما مع “غريمه” سليمان فرنجية، غير أن كل هذه اللقاءات لم تعد عليه بالفائدة المرجوة.

حاول باسيل تمرير اسم مرشح ثالث للرئاسة أمام جنبلاط، فلم يلقَ من الزعيم الدرزي أي تجاوب، وإن كان جنبلاط المنادي الأول بالحوار، فهو لم يكن ليمتنع عن لقاء باسيل وإلا يكون قد ناقض نفسه، لكن باسيل كان يريد شيئاً مختلفاً وهو محاولة مد جسور لتحسين علاقته بالنائب تيمور جنبلاط، لكن الأخير لم يكن موافقاً أصلاً على اللقاء به فخاب ظنه.

ولا يزال باسيل يحاول علناً وسراً بواسطة تسريبات إعلامية طرح أسماء مرشحين للرئاسة من خارج تياره السياسي لكنهم بالتأكيد يدورون في فلكه أو تربطهم به مصالح معينة مالية أو سياسية، لكن المؤسف أن جبران الذي يمارس التعطيل بأبهى ملامحه، لا يسمع صرخات الناس الذين ضاقوا ذرعاً بالحالة المزرية التي أوصلهم إليها “العهد القوي”، وكأنه أصيب بصمم مزمن، ولم يعد يرى أن لا نفع لمحاولاته البائسة في استغلال الوقت علّه يفلح في رفع العقوبات عنه، وكأنه أصبح أعمى يسير وراء هواجسه غير حافل لا بمصير بلد ولا بمصير ناس.

لعل باسيل يعتد بنفسه على ما قال الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعت كلماتي من به صمم”، لكن شتان ما بين الثريا والثرى، فللناس صرخات لا تصل إلى أذني باسيل، ولعلها ستصل قريباً.

شارك المقال