عون – باسيل… هكذا تصبح رئيساً!

أنطوني جعجع

ليس سراً أن ما كان يجمع “التيار الوطني الحر” مع “حزب الله” في عهد ميشال عون لا يجمعهما في زمن جبران باسيل.

وليس سراً أيضاً أن ما كان يشكل حاجة استراتيجية وتوسعية عند البعض قبل “اتفاق مار مخايل” أو حاجة سياسية وسلطوية عند البعض الآخر بعد الاتفاق، استنفد أعتى أسلحته، وبات “حزب الله” في موقع لا يضطره الى المسايرات و”التيار الوطني الحر” في موقع لا يقوى فيه على التراجعات.

ولا يعني هذا أن “الود” قد انقطع نهائياً، لكنه يعني أن حسن نصر الله لم يعد مستعداً لأن يلعب دور “المربي” أو الصبور أو الحكم بين باسيل وخصومه في محور الممانعة، ولا مستعداً لتسديد ديونه وهفواته السياسية والشخصية والأخلاقية من رصيده الخاص، وكأنه يقول في قرارة نفسه: “لن ألدغ من الجحر مرتين”.

فما كان يجوز مع الرئيس عون من مسايرات وتنازلات وحمايات، لم يعد جائزاً أو ممكناً مع باسيل الذي أظهر الوجه الآخر لشخصية لا يمكن الركون اليها أو إشباع عشقها للسلطة في وقت يعرف “حزب الله” أن ايران تشهد حصاراً خانقاً من الداخل والخارج بدأت مفاعيله تنفلش على حلفائها في المنطقة، وأن الوقت ليس وقت هفوات من جانبه أو “صبيانيات” من سواه.

عاملان وحيدان يدفعان نصر الله الى احتواء باسيل ورعونته وعناده حتى الآن، وهما أولاً الحفاظ على بعض الخطوط المفتوحة مع الرئيس عون، وثانياً الحاجة الى كتلة “التيار الوطني الحر” في حال فشل في التوصل الى “توافق” مع الكتل اللبنانية على رئيس لا يكون خصماً له كما هي الحال مع ميشال معوض، ولا يكون خصماً لسواه كما هي الحال مع سليمان فرنجية.

والواقع أن الحقيقة التي يتجاهلها باسيل أن “حزب الله” ليس “جمعية خيرية” ولا يقدم المكرمات من دون مقابل، وأن لا مصلحة تتقدم على مصالح مشروعه الايديولوجي والاستراتيجي، وأن أي قرار أو أي سلاح ليس مستبعداً عندما يتعلق الأمر بما يخدم مشروع الهلال الايراني الممتد من طهران الى بيروت.

والواقع أن الحقيقة التي يتجاهلها “حزب الله” أن باسيل يعتبر نفسه “صاحب حق” لا بل “صاحب فضل” في كثير من المواقف التي خدمت حليفه الشيعي في كثير من المحطات الحرجة، وأن ثمن ذلك لا ينسحب لمصلحة عون وحده بل يشمل فريق عمله وعلى رأسهم الصهر الشاب الذي يحاول تصوير نفسه ضحية يجب أن تُنصف أو منقذاً يجب أن يحكم.

وأكثر من ذلك، لا يدرك باسيل أن “حزب الله” الذي فقد الغالبية النيابية بعدما فشل الصهر في الحفاظ على شعبية “الجنرال”، ويشعر بقلق واضح حيال ما يجري في شوارع ايران منذ أربعة أشهر وفي علاقاتها المتوترة مع العالمين الغربي والعربي، يقيم في زمن يحتاج فيه الى الحسابات الدقيقة وليس الى العواطف، والى حكم جديد يجلب له “الأصدقاء” أو يحافظ على الأقل على من تبقى منهم، معتبراً أن باسيل فقد كل الفرص التي تسمح له بطي صفحات متشنجة مع معظم الفرقاء اللبنانيين ومن بينهم حلفاء “وازنون” أي حركة “أمل” وتيار “المردة”.

ويقول مقرب من “حزب الله” في هذا السياق ان باسيل ليس متصالحاً الا مع نفسه، وانه لا يتوانى عن أي شيء يمكن أن يعيده رئيساً فعلياً وليس رئيس ظل الى قصر بعبدا، حتى لو أدى ذلك الى صدام مع حسن نصر الله نفسه، معتبراً أن الرجل “يعاني فائض غرور أكثر منه فائض كفاءات” مع رجل لا يتساهل حيال أي “متمرد” سواء كان قريباً أو غريباً.

وذهب المصدر بعيداً الى حد القول ان حسن نصر الله يتبع المقولة التي تغلب المصلحة على الصداقة أحياناً والعداوة أحياناً أخرى، مشيراً الى أنه لا يجد صعوبة أو استحالة في تحويل الصديق الى عدو والعدو الى صديق عندما تتطلب المصلحة ذلك أو عندما تقل الخيارات الحاسمة أو القرارات الأحادية.

وفي المقابل، ينقل مصدر مقرب من الرابية، أن الرئيس عون يعتبر أن “اتفاق مار مخايل” يحتضر حقاً، لكن “حزب الله” لا يزال في حاجة اليه، مصراً على أن باسيل هو الأحق في خلافته وأنه أفضل من يمكن أن يقود هذه المرحلة من تاريخ لبنان.

ويضيف أن “حزب الله” سيضطر مع مرور الوقت الى الاذعان أو على الأقل الى الاقرار بأن باسيل هو الخيار الأصح، قائلاً ان الصهر، وليس أي شخصية أخرى، هو الذي أبرم اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل وحاز احترام أميركا وفرنسا والمجتمع الغربي، فضلاً عن تل أبيب نفسها، وهو الذي فتح الباب أمام قطر للدخول الى عالم الغاز في البحر المتوسط.

ويتابع أن باسيل هو الرجل الوحيد “القادر على ادارة هذا الملف الذي يراهن عليه اللبنانيون للخروج من أزمتهم الحالية”، مؤكداً أنه لن يقوم بأي وساطة مع “حزب الله” لا تكون كرمى “عيون الصهر”، ومعتبراً أنه “أحرق” سمعته ووعوده وهيبته وشعبيته وانقلب على تفاهمات واتفاقات من أجل الحفاظ على “اتفاق مار مخايل” وعلى ما تراكم من تحالفات وتفاهمات بين الطرفين، وأنه انما فعل ذلك طمعاً في ترئيس باسيل من بعده.

وذهب المصدر بعيداً الى حد القول ان عون هو من يقف وراء عناد باسيل قائلاً له: “لقد عاندتُ قبلك وقاتلت وشاكست من أجل الرئاسة ثلاثين سنة فلا ضير أن تفعل الأمر نفسه ثلاثين سنة أخرى”.

ولعل هذه الوشوشات التي تتسرب من الرابية هي التي دفعت حسن نصر الله الى التعامل مع “التيار الوطني الحر” ورئيسه بطريقة لا تحمل الكثير من الود ولا الكثير من البعد، مخيّراً اياهما بين الوفاق والفراق، وكاشفاً الحقيقة الجديدة القديمة التي تقول انه ليس في حاجة الى حماية أحد أو غطاء من أحد خلافاً لرجال العهد الذين استطاعوا اكمال الولاية الرئاسية بسيفه وليس بسيف سواه سواء في الداخل أو في الخارج.

وحيال هذا المشهد القاتم، يجمع المراقبون على أن “حزب الله” بات حتى الآن على الأقل من دون حليف مسيحي جدي أو على الأقل حليف يثق به، وأن باسيل بات من دون أي حليف لا لدى المسيحيين ولا لدى المسلمين، ولم يبقَ أمام الاثنين الا التسليم بما يقرره رئيس “الأمر الواقع” أو “رئيس الصدفة” أو رئيس “أفضل الممكن”.

ويرى المراقبون، أن “حزب الله” سيحاول الانفتاح على كتل نيابية مستقلة وحتى سيادية اذا اضطر الأمر اضافة الى وليد جنبلاط، للتعويض عن نواب “التيار”، وأن باسيل سيحاول اذا أمكن الانفتاح على ألد أعدائه أي “القوات اللبنانية” كما فعل قبيل انتخاب عمه رئيساً للجمهورية.

لكن السؤال يبقى: من يختار “حزب الله” بدلاً من فرنجية أو بالأحرى ماذا يختار كي يعزز حظوظه، هل يعمد الى إحراج رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع من خلال حشره في الزاوية وتخييره بين فرنجية وحفنة من خصومه القريبين والبعيدين، وهو العارف أن فرنجية يبقى أقل وقعاً عليه من أي مرشح ينافسه في عقر داره؟ وهل يعمد الى حشر جعجع وباسيل من خلال تشريع الجلسات التي تعقدها الحكومة المستقيلة من دون رئيس للجمهورية، محاولاً أن يهشم نفوذ الرجلين وموقع المسيحيين الأول؟

وهل يعمد باسيل الى محاولة اغواء جعجع بمرشح لا يكون استفزازياً، بل مرشح وسطي يحاول من خلاله إفهام “حزب الله” أنه قادر على صنع رئيس إن لم يستطع أن يكون هو الرئيس؟

حتى الآن، تلتزم “القوات اللبنانية” الصمت حيال بعض الخيارات التعجيزية، وترد على “حزب الله” من خلال انفتاح مشروط على باسيل، وعلى باسيل من خلال التمسك بالنائب ميشال معوض، محاولة قطع الطريق على سياسة الخيار الواحد أي “فلان أو الفوضى”.

حقيقة واحدة، يجهلها الأطراف الثلاثة، وهي أن حسن نصر الله يعاني من الانفجارات المتلاحقة ما يفوق الانفراجات، وأن باسيل يعاني من العداوات المتجذرة ما يفوق الصداقات الطارئة، وأن جعجع يعاني من الخيبات الهائلة ما يفوق الخيارات الخاطئة، وأن ما يبحثون عنه ليس في البرلمان، ولا في الزواريب الجانبية، لكنه قد يكون في الحقيبة التي حملها فجأة وزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان الى بيروت والضاحية ودمشق، وفي الحقيبة العربية – الدولية التي تحاول سحب لبنان من قبضة “حزب الله” وسحب المنطقة من حرائق ايران.

حتى الآن لا ترياق في الداخل ولا من الخارج، لقد بات الناخبون المحليون أمام الكثير من النوافذ المهشمة التي بات ترميمها صعباً وتغييرها مستحيلاً، وأن ما كان “عسلاً مراً” في الأمس بين جعجع وعون تحول الى “علقم معسول” مع باسيل، وأن ما كان “زواجاً مارونياً” بين عون ونصر الله تحول الى طلاق في مكان أو مساكنة قسرية في مكان آخر، وأن كل ما يدور في الكواليس وفي العلن ليس الا قنابل صوتية تنفجر في الضاحية ويتردد صداها في الرابية ومعراب.

شارك المقال