المسيحيون من الدور الريادي… الى الدفاع عن مواقعهم

هيام طوق
هيام طوق

لطالما لعب المسيحيون دوراً فاعلاً وأساسياً في الحياة العامة في لبنان الذي يعتبر الدولة الوحيدة في الوطن العربي التي يرأس أعلى سلطة فيها أي رئاسة الجمهورية، مسيحي. وشهد البلد بين 1943 و1975 ازدهاراً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً غير مسبوق حتى دعي “سويسرا الشرق” الى أن أعاقت الحرب الأهلية هذا التقدم.

اليوم، وبعد هذه السنوات الطويلة، يجمع المؤرخون والمواكبون للمرحلة السياسية على تراجع الدور المسيحي، وما الصرخة التي يطلقها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي عن مخطط قيد التحضير لخلق فراغ في المناصب المارونية والمسيحية، وتحذيراته وخشيته على مستقبل المواقع والمراكز التي تشغلها الطائفة وأبرزها رئاسة الجمهورية، سوى دليل دامغ على تحجيم دور المسيحيين الذين يجدون أنفسهم اليوم يدافعون عن مواقعهم، لأنه وفق بيان المطارنة الموارنة بالأمس هناك “نيّة خفيّة ترمي إلى تغيير هوية لبنان المبنية على الحرية وصون كرامة المواطنين من خلال محاولة إحداث فراغ في المناصب المارونية خصوصاً والمسيحية عموماً في الدولة”.

واذا كان الفراغ في المواقع المسيحية يزعزع أسس البلد السيادية والمالية والأمنية، فإن البلاد دخلت الشغور الرئاسي منذ منتصف ليل 31 تشرين الأول، والمجلس النيابي عاجز عن انتخاب الرئيس بعد الجلسات المتتالية التي من المتوقع أن تستمر لفترة مجهولة من دون نتيجة. كما أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تنتهي ولايته في تموز 2023 في ظل أزمة مالية واقتصادية لم يعرفها لبنان سابقاً، اضافة الى المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا الذي يُحال على التقاعد في أيار 2023، وقائد الجيش العماد جوزيف عون الذي يُحال على التقاعد في كانون الثاني 2024، والعديد من المدراء العامين وموظفي الفئة الأولى. كل ذلك، وسط انقسام سياسي حاد، وتعطيل للمؤسسات الدستورية.

إزاء هذا الواقع، يعتبر البعض أن المسيحيين أنفسهم ساهموا في وصولهم الى هذه الحالة، وأنهم بين “لبنان القوي” و”الجمهورية القوية”، خسروا دورهم القوي.

وفي هذا السياق، رأى المحلل والناشط السياسي الياس الزغبي في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن “هناك مسؤولية على المسيحيين لما بلغه وضعهم بسبب نزاعاتهم وخلافاتهم، لكن المسؤولية الواقعية تقع فعلاً على من تقدم منهم في السلطة سواء في رئاسة الجمهورية أو في الحكومات الأخيرة. ويركز الفريق المهيمن بقيادة حزب الله في هذه الآونة على تحميل المسيحيين مسؤولية الفشل في انتاج السلطة، لكن الحقيقة أن سبب الفشل في اعادة انتاج السلطة بدءاً من رئاسة الجمهورية، يقع على عاتق هذه القوة التي دأبت منذ أشهر على تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية لاعادة انتاج السلطة بكل مستوياتها، وهذه واقعة تكررت منذ 5 أشهر وعلى مدى 11 جلسة لانتخاب الرئيس. لذلك، هذا الانقسام المسيحي محكوم بفعل هذا الواقع”.

واعتبر أن “الفريق المسيحي الذي حكم في الآونة الاخيرة أي التيار العوني بدأ يدرك أنه في حالة انحسار وانكماش بل في ما يشبه العزلة السياسية بعدما تخلى عنه حلفاؤه وتحديداً حزب الله الذي جيّر قوته في اتجاه رئيس الحكومة غير آبه لتهويل التيار بفك التحالف على أساس ورقة التفاهم منذ 17 عاماً. لذلك، فإن الحالة المسيحية وبفعل المنطق السياسي والوعي الوطني، تتجه حكماً الى بلورة صيغة حياة تكفل استمرار وحدة لبنان والعيش المشترك، لكن وفق تركيبة داخلية قابلة للحياة، وتتمتع بنوع من الفهم والادراك العربيين والدوليين، وليست صيغة حياة مرتجلة أو قابلة للانتكاس بين سنة وأخرى كما كان يحصل على مدى أكثر من مئة عام من عمر لبنان الكبير”.

وأوضح الزغبي أن “تراكم المآزق والمشكلات السياسية الكبرى في لبنان منذ ما بعد اتفاق الطائف الى اليوم بدّل كثيراً في العلاقات البينية بين المكونات اللبنانية وأظهر الكثير من الخلل في النظام السياسي، واستطراداً الأنظمة الناتجة عنه الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتربوية والثقافية وما الى ذلك. وهذا الواقع الانهياري الذي بلغه لبنان يعكس مدى التغيير السلبي في النهج والموقع والدور الذي كان للبنان في عقود العشرينيات بعد الاستقلال سنة 1943 وصولاً الى الاستقلال الثاني سنة 2005، ولهذه الصورة المشرقة التي كان المسيحيون المرجع الأساس في رسمها وتقديمها للعالم”.

وأشار الى أن “المسيحيين يجدون أنفسهم اليوم في موقع الدفاع عما تبقى من هذه الصورة الحضارية لكنهم يفتقدون الوسائل الفاعلة لانقاذ لبنان مما بلغه من انحدار”، عازياً هذا التراجع الى عاملين خارجي وداخلي: “الخارجي بالمعنى اللبناني أي تعاظم القوى المسلحة بقيادة حزب الله مع مشروعه الايراني المختلف كلياً عن المشروع اللبناني التاريخي الذي أرساه المسيحيون مع مكونات لبنانية أخرى خصوصاً السنّة والدروز، وفاعليات شيعية كيانية لبنانية لم يكن لها مشروع خاص غير لبناني كما هي الحال الآن. المسيحيون اليوم أمام هذا التحدي بحيث أنهم يخشون انهيار الفكرة اللبنانية الأصلية التي أرسوا دعائمها وركائزها في السياسة والاقتصاد والثقافة. لذلك، نعاين ونتابع كيف أن الفاعليات المسيحية الروحية والسياسية تتخوف على مصير لبنان كوطن ودولة لكنها في الوقت نفسه حريصة على استمرار الوحدة اللبنانية تحت عنوان العيش المشترك. ومقابل المحافظة على العيش المشترك، بدأ التفكير في صيغ أو تركيبة داخلية للحضور اللبناني أو حتى للنظام تؤمن الاستقرار بدلاً من الهيمنة أو السيطرة التي يفرضها فريق مسلح على سائر الأفرقاء والمكونات”.

وقال الزغبي: “بمتابعة دقيقة كمراقبين يمكن أن نلمس اتجاهاً مسيحياً نحو اختراع صيغة حياة جديدة تحافظ على الكيانية اللبنانية وفي الوقت نفسه تعطل عبوات التفرقة والتصادم والنزاعات الداخلية الحادة من سياسية وأمنية وما الى ذلك. ولا يمكن استبعاد فكرة اللامركزية الموسعة التي يمكن أن تبدأ ادارية وتتوسع الى مالية ونوع من الفديرالية حفاظاً على النسيج اللبناني وتفاعله الخلاق وليس بتصادمه تحت ثنائية التابع والمتبوع أو القوي والضعيف. فتكون كل المكونات اللبنانية مستقرة وتتساوى في الحضور والدور والقوة. من هنا، يفهم الكلام العالي السقف الذي طرحه البطريرك الراعي حين حذر من مخطط للانقضاض على المواقع المسيحية عبر تفريغها أسوة بتفريغ المقام الأول أي رئاسة الجمهورية. ولاقى هذا النداء تجاوباً في أوساط مسيحية سياسية وشعبية واسعة، وربما هذا هو التحدي الأساس أمام هذه الفاعليات من أحزاب وشخصيات وقادة رأي. لذلك، التحدي الآخر، هو التحدي الداخلي بين المسيحيين وهو سبب أكيد من الأسباب التي أدت الى تراجع الدور والقدرة المسيحية”.

شارك المقال