المشكلة أكبر من الاقتصاد يا سيدي

أحمد عدنان
أحمد عدنان

كتب الأستاذ عماد الدين أديب مقالة في موقع “أساس” ختمها بما يلي: “إذا كان نهج دول الخليج الجديد هو الاستثمار ذو العائد لا الدعم القائم على العواطف السياسية… فإنّ الأردن يمتلك مجالات مربحة وجيّدة يمكن أن تغري بالاستثمار فيها. باختصار: لا تتركوا الأردن وحيداً”. وكان أساس المقالة ما قاله الملك الراحل الحسين بن طلال للكاتب المحترم: “هل تعرف ما هي المهمة المستحيلة لملك الأردن؟ إنه الاقتصاد يا سيدي”.

ومع الاحترام الكبير للأستاذ العزيز إلا أن المشكلة اليوم – وبالتالي الحل – أعقد من ذلك بكثير.

في سنتي 2016 و2017، هاجم رئيس النظام السوري بشار الأسد المملكة الأردنية الهاشمية أكثر من مرة زاعماً أن لديه معلومات تفيد بأن الأردن ينوي احتلال جنوب سوريا بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية (وهذا محض افتراء)، وأنه إذا حصل ذلك فهو سيتعامل مع الأردن كأرض لا كدولة. والحقيقة أن ما قاله الأسد ليس جديداً على نظامه الذي ينظر لأغلب الدول المحيطة ككيانات مصطنعة اقتطعها الاستعمار قسراً من سوريا للتآمر عليها.

وفي المرحلة عينها، هاجمت ميليشيا “حزب الله” الارهابية المملكة الأردنية على لسان الأمين العام حسن نصر الله وغيره في صفاقة مريبة متهمة الأردن بدعم الارهاب (وهذا محض افتراء أيضاً)، وكذلك فعلت وزارة الخارجية الايرانية على لسان الناطق باسمها، وكان سبب سعار محور الممانعة على الأردن مناورة عسكرية “الأسد المتأهب” وتصريحات العاهل الأردني لصحيفة “واشنطن بوست”.

في 27 كانون الثاني 2022 بثت قناة “العربية – الحدث” خبراً مفاده أن الجيش الأردني يخوض معارك يومية ضد ميليشيات إيرانية منظمة، وعلى رأسها ميليشيا “حزب الله”، تستهدف تهريب المخدرات من البقاع (لبنان) وسوريا الى دول الخليج عبر الأراضي الأردنية في ظل غياب تام للجيش السوري على الحدود، وقد أسفرت الاشتباكات عن مقتل 27 مهرباً وإرهايياً. ولا تزال تداعيات هذا الخبر مستمرة إلى يومنا هذا، ولا تزال كفاءة الأجهزة الأمنية والعسكرية في الأردن ويقظتها مثار إعجاب.

وفي الشهر الماضي (كانون الأول/ ديسمبر 2022) شهد الأردن سلسلة من الاحتجاجات، ربما كانت لها أسبابها المشروعة، لكن حدتها والدعاية التي رافقتها – كماً وشكلاً ومضموناً – وبعض الوجوه والتيارات التي تصدرتها لم تكن بريئة أبداً.

هذه الأخبار والأحداث تسير في سياق واحد، أن الأردن هو الهدف التالي لإيران وميليشياتها لاستكمال المسير إلى الخليج من جهة الشمال، وتكفي نظرة سريعة إلى الخريطة لاستيعاب المشهد، إن الهدف النهائي للمشروع الإيراني هو تطويق السعودية ودول الخليج تمهيداً للاختراق الخشن. ايران متغلغلة جنوباً في اليمن، وهي متربصة عضوياً من جهة الشرق في البحرين وفي الكويت، أما الحزام الشمالي – ويمكن تسميته أيضاً للأسف بالحزام الفارسي – الذي يبدأ بالعراق وينتهي في لبنان فقد سقط بالكامل ولم يبقَ منه إلا الأردن الذي يواجه اليوم خطراً ليس كمثله خطر، وقلاقل الاقتصاد هي العرض وليس المرض.

تتعامل إيران مع الدول المحيطة بدول الخليج كمسرح عمليات واحد، مع إعطاء الأولوية القصوى للحزام الشمالي بحكم أنه الخزان البشري لمرتزقتها ووسادتها الدافئة جغرافياً وسياسياً، والحقيقة أن ظروفاً متعددة ساهمت – بلا قصد – في تمكين إيران من هذا الحزام، بداية من انسحاب دول الاعتدال من لبنان (2011) ثم من سوريا (2016)، وبالتالي ترك إيران تفعل ما تشاء: تخترق فتتغلغل ثم تستوطن فتستقر وتتفرغ على هواها لاستهداف الخليج بالمخدرات أولاً ثم بالإرهاب دائماً.

المشكلة في التعامل مع الحزام الشمالي تتفاقم اليوم على الرغم من توافر حسن النوايا وصدق المقاصد، من الانسحاب وترك الفراغات لإيران إلى مكافأة حلفائها، فبالنظر إلى الحزام الشمالي – وغيره – كمسرح عمليات واحد، كانت مثيرة جداً تسوية انتخاب ميشال عون حليف إيران وميليشيا “حزب الله” رئيساً للبنان في 2016، وبالمعنى السياسي فهم حلفاء إيران هذا الحدث كالآتي: اثبتوا على تحالفكم مع إيران وعداوتكم للعرب… وسيكافئكم العرب على ذلك بعد حين. وما جرى في 2016 قد يتكرر – لا سمح الله – لأسباب داخلية محدودة في 2023 مع اسم سليمان فرنجية، وليس طبيعياً أبداً توقع اختلاف النتائج للتجربة نفسها، عهد “حزب الله” الأول كسر لبنان، وعهده الثاني سيقتله.

في سوريا لا يختلف الحال، ويجدر التنبيه على أن النتيجة السياسية التي لا يريدها أحد لاعادة تعويم بشار الأسد ليست فقط “حالفوا إيران تكسبوا وتغنموا وتنتصروا” أو “من سيربح بعد عون والأسد؟”، بل إنه يتيح لمرشد الثورة الإسلاموية في طهران أن يلتفت الى زبانيته موجهاً: بشار الأسد الذي خضع لنا وهو قوي لن ينقلب علينا وهو عاجز أو ضعيف، إنه ابننا منذ أكثر من ربع قرن. لقد ضمنا سورياً تماما من جديد، آن أوان التفرغ للأردن، إذا أصبحنا داخل الأردن فقد أصبحنا داخل دول الخليج بالفعل، ولعل فتح جبهة خارجية جديدة يساهم في تهدئة الجبهة الداخلية المشتعلة.

قدر الأردن أن تكون قيمته السياسية أكبر بكثير من حقيقته، لقد لعب هذا البلد دور الحجاب الحاجز بين إسرائيل وبين السعودية والعراق، ويبدو اليوم – بعد أن تفوقت إيران في عداوتها للعرب على إسرائيل – كسدادة الفلين بين دول الخليج وبين الحزام الشمالي الفارسي أو الدول العربية المتأيرنة أو “الهلال الشيعي” الذي كان العاهل الأردني أول من حذر من خطورته وتداعياته في 2005. تخيل فقط لو أن الأردن أصبح من دول ذاك الحزام!.

الأردنيون قبل غيرهم تقع على عاتقهم المسؤولية الأكبر والأهم، فالعرش الهاشمي يصون الأردن من الغرق في المستنقع الايراني، ولا أظن أن الأحوال في سوريا والعراق ولبنان مبشرة. سيصبح الحديث عن التحديات التي أشار اليها الأستاذ أديب في مقالته – على سبيل المثال: عجز الموازنة والفساد الإداري – نوعاً من الترف وذكرى من الماضي الجميل. وحيث أن أمن الأردن جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة، لن تقتصر العواقب الوخيمة والمريعة لانكساره عند حدوده، لذا نكرر الرجاء إلى من يهمه الأمر داخل الأردن وخارجه: لا تتركوا الأردن وحيداً.

شارك المقال