التطبيع مع الأسد ممكن وانتخاب الرئيس مستحيل

عبدالوهاب بدرخان

أمران جيّدان في فشل الاجتماع الخماسي في باريس. الأول أنه أزاح، ولو موقتاً، احتمال الرضوخ الخارجي لسلطة الأمر الواقع التي يفرضها الاحتلال الإيراني، إذ يعتقد “حزب إيران/ حزب الله” أن الولايات المتحدة وفرنسا ملزمتان بمكافأته على “خدمات” عدة منها تسهيله ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بشروط غير مناسبة للبنان. والثاني أن الخلافات بين الأطراف الخمسة حالت دون خروجها بموقف موحّد قد يخدم أهداف “حزب إيران”، كما أطاحت فكرة إشراك إيران بمداولاتها كما اقترح البعض، وبالتالي فإن اجتماع باريس أعاد الكرة الى اللاعبين المحليين مع علمه باستحالة توافقهم. لكن عدم دخول أي معطى خارجي جديد الى الأزمة يعني اطالتها وربما دفعها الى تعقيدات تضاعف خطورتها، إذ أن بقاء الدولة بلا رئيس وبلا حكومة فاعلة وبلا أي دور للمجلس النيابي هو بالتحديد ما ينشده “الحزب” وما يسهّل عليه لعبة التعطيل الكامل للدولة وعدم السماح إلا بما يلائم مستقبل مشروعه وسلاحه وتمتّعه بصفة الحاكم الأوحد.

من ذلك مثلاً أن يذهب وفد وزاري الى دمشق لتطبيع العلاقات معها، وتتويجه بلقاء مع بشار الأسد. لا شك في أن كارثة الزلزال استدعت الاتصال للتعزية وعرض المساعدة، لكن شكل التحرك اللبناني ومضمونه كانا سياسيين جداً ولا علاقة لهما بالكارثة الإنسانية، وامتثلا تماماً لما أراده الأسد الذي انشغل وحلقته الضيقة منذ لحظة الزلزال بالتفكير في سيناريوات لاستغلال الحدث في إعادة تعويم شخصه ونظامه، كما في استدراج بعض المساعدات لتمويل سلطته لا لاغاثة المنكوبين المحتاجين حتى في مناطق سيطرته. وفيما كان أعوانه يتشددون في التفاوض مع الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، كان إعلام الأسد يسلّط الأضواء على صورته مع عبد الله بوحبيب وأعضاء وفده. وفي المقابل، كان إعلام العونيين يحتفي بالمناسبة التي يتصدّر فيها وزراؤهم ذلك المشهد المقيت. ربما ظنوا أن هذا التحرّك يقوّي جبران باسيل ويدعم صبيانياته في خلافه مع “حزب إيران”، لكن في المقابل كان الأسد نفسه يعتقد أن لقاءه مع الوفد اللبناني يستدرج مساراً أوسع للتطبيع العربي والدولي معه. كلا الطرفين، بالأخص الأسدي، اكتشف أن حساباته ظلّت خاطئة وفارغة.

في ظل زلزال هائل كهذا يمكن لـ “ديبلوماسية الكوارث” أن تتفاعل انسانياً، وقد خبر لبنان هذه التجربة بعد انفجار مرفأ بيروت، إذ تدفقت مساعدات الى الشعب والمجتمع المدني بتجاهل تام لـ “الدولة” المُخضَعة لسلطة المافيا والميليشيا، اللتين استكملتا فسادهما بنهب ما أمكن من المساعدات للتربّح به. وكان من الطبيعي أن تهرع الأمم المتحدة ومنظماتها ودول عدة الى مساعدة سوريا وعدم التطلّع الى من يحكمها، نظراً الى ضخامة الحاجات التي فرضتها الكارثة، لكن أكثر ما تردد في الأروقة الدولية كان التشكيك في سلوك نظام الأسد إزاء المساعدات أياً كان نوعها. فهذا نظام برهن على الدوام أنه وُجد ليقتل شعبه وليس في قاموسه أن يبذل أي جهد لإنقاذ الأرواح. ولم ينسَ العالم الحصارات التي أقامها ضد مواطنيه في بلدات وقرى قريبة من دمشق أو بعيدة عنها، ولا نسي مجازره والدمار الكبير الذي أحدثته براميله المتفجّرة.

في هذه الحال وجدت باريس أنها مضطرّة لتوضيح أن أي مساعدة “للشعب السوري” لا تشكّل “تغييراً في النهج” الذي تتّبعه تجاه النظام، بل قالت إنها تعمل “لصالح الشعب السوري بخلاف (ما يفعل) الأسد”. ينسجم هذا الموقف مع عموم المجتمع الدولي الذي لا يزال الأسد يأمل بأن يقبله بجرائمه، فمشكلته لا تحلّ ببضعة اتصالات هاتفية عربية أو بقوافل وطائرات إغاثة يستولي النظام على معظم حمولتها، أو حتى بتوسّع “التطبيع العربي” جزئياً معه.

لم تُحدث المساعدة الروسية ولا الإيرانية فارقاً في أعمال الإنقاذ داخل سوريا – النظام، لأن الدولتين منشغلتان بمشكلاتهما وعلى الرغم من أنهما لم تتوقفا طوال أعوام عن نقل الأسلحة لقتل السوريين فإنهما لا تريان ضرورة لإرسال معدات ثقيلة ضرورية للبحث عن ناجين تحت الأنقاض، إذ أن “عقيدتهما” الإنسانية لا تختلف عن “عقيدة” النظام. ولم يبالِ هذا النظام بانتهاز “فرصة” الكارثة لإظهار أنه يمثّل “دولة” تتحمّل المسؤولية تجاه مواطنيها بل اتخذها مناسبة للتظلّم من العقوبات الغربية، التي يعرف جيداً لماذا فُرضت عليه، بل يعرف خصوصاً أن تلك العقوبات لا تحول دون ارسال المساعدات اللازمة والمطلوبة في الحالات الانسانية، لكن الفارق بين الأسد ورجب طيّب اردوغان أن العالم رأى كيف أن الأخير وظّف كل إمكانات تركيا في مواجهة نتائج الزلزال. بل الأهم أن الهيئات الدولية كافة لم تثق بسلوك الأسد ونظامه حيال المساعدات الى سوريا – المعارضة التي تُعتبر معاناتها أكبر نظراً الى نقص الامكانات.

قد تبقى زيارة الوفد الوزاري اللبناني لدمشق المكسب السياسي الوحيد الذي حصّله الأسد من كارثة الزلزال، لكنه لن يغيّر شيئاً في وضعه كحاكم منبوذ دولياً، بل سيجده بلا فائدة فما يحتاج اليه من لبنان أكان دولارات أو وقوداً يحصل عليه بالتلاعب والتهريب. أما الذين رتّبوا هذه الزيارة واعتبروها كسراً لـ “التابوه” فسرعان ما سيدركون أنهم لم يحققوا أي مكسب رئاسي أو سياسي منها، فالأسد استقبلهم ليستخدمهم ولن يقدّم أي تنازل على صعيد النازحين أو سواه، حتى مع افتراض أنه يريد ذلك. إذاً، فالرابح الوحيد هو “حزب إيران” الذي ألحّ دائماً على مبادرات لبنانية من هذا النوع، لاستثمارها لدى مشغّليه في طهران، ولم يتمكّن من تحقيقها حتى بوجود حليفه ميشال عون في الرئاسة.

بالعودة الى اجتماع باريس الخاص بلبنان فلا بدّ من التذكير بأن “حزب إيران” استبقه بشيء من العنتريات من قبيل أن “أميركا لا تستطيع أن تفرض إرادتها على لبنان في الموضوع الرئاسي أو غيره” بحسب علي دغموش (نائب رئيس المجلس التنفيذي في “الحزب”) الذي قال أيضاً إن “ما يعني واشنطن هو تأمين مصالحها ومصالح إسرائيل”، لكنه لم يكمل عبارته بأن هذه المصالح بات “حزبه” يتولّى تأمينها وفقاً لمصالحه لا مصالح لبنان. ومما قال أيضاً إنه “طالما أن أميركا جزء من ماكينة الخارج ولقاءاته حول لبنان فلن يكون الحل لمصلحة اللبنانيين”. غير أن المداولات التي مهّدت لاجتماع باريس، وسادها قلق من الوضع الاقتصادي والمعيشي ومن فراغ رئاسي ومؤسساتي في لبنان، انتهت الى توافقات بين الأطراف الخمسة على أن معالجة الأزمة اللبنانية تبدأ بانتظام الدولة عبر انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة قادرة على العمل ومباشرة الإصلاحات. أما التوافق الأهم فمفاده أنه “بوجود حزب إيران/ حزب الله لا حلّ في لبنان”.

شارك المقال