حاربوه… فأقصوه… وانهار البلد

هدى علاء الدين

“أخذت قراري بأن لا أتولى رئاسة الحكومة في عهد لحود أو في أي عهد يشبهه. وقراري هذا أقلقني لأنهم يستطيعون دفع الحريري إلى الخروج من الحكم لكنهم لا يستطيعون دفع البلد خطوة إلى الأمام، لا بل إنهم لا يستطيعون وقف التدهور. وهذا لا يعني أني ربطت البلد بشخصي، لا… هذا يعني أنهم لا يملكون برنامجاً، برنامجهم الوحيد هو السيطرة وسياستهم الوحيدة هي عرقلة ما يفعله الحريري”.

كلمات قالها الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2004 وأعادها التاريخ مؤكداً صوابيتها عام 2022 مع اعتكاف الرئيس سعد الحريري عن الحكم والسياسة، اعتكاف أدخل لبنان في أتون الانهيار بأشكاله كافة وأوقع لبنان في الفخاخ الحاقدة التي بدأ الاعداد لها منذ العام 2005. فقد كان لمحاولات نزع عباءة الحريرية السياسية والاقتصادية عنوة عن لبنان ثمناً باهظاً على اللبنانيين، بعد أن أورثهم محاربوها بلداً منكوباً تهاوى به بنيانه الاقتصادي والاجتماعي.

كان رفيق الحريري قادراً على امتصاص كل الصدمات السياسية والاقتصادية وتحويلها إلى فرص متجددة على الرغم من أنه لم يُسمح له بتنفيذ الاصلاحات التي طالب بها المجتمع الدولي مراراً وتكراراً. فوجود رفيق الحريري في الحياة السياسة كان الضمانة الوحيدة للاستقرار وجذب الاستثمارات وعدم الانهيار مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك. لقد كان عامل الثقة الاقتصادي الأوحد من دون أي منازع في بلد متفتت سياسياً وأمنياً. ومع اغتياله عام 2005 وفقدان الثقة بلبنان، أعطى قدوم الرئيس سعد الحريري إلى الحكم في العام 2009 اللبنانيين والعالمين العربي والدولي الثقة من جديد من أجل الاستثمار في لبنان وإقامة المشاريع الجاذبة للرساميل والنهوض بالاقتصاد على الرغم من رياح التعطيل التي رافقت مسيرته. لكن سنوات حكمه لم تكن خالية من الأثمان الباهظة، فقد دفع ثمن محاربة نهج والده وسياسته الاقتصادية التي بقيت لسنوات وسنوات مصدر ازدهار وانتعاش للاقتصاد اللبناني، وما إن أدرك أعداء الحريرية أن نقطة ضعف استمرار هذه السياسة تكمن في الصراع السياسي وانعدام الأمن حتى سارعوا إلى محاربتها عبر هذه الأدوات التي تمرّسوا في استخدامها متى دعت الحاجة إلى ذلك.

قبل مجيء رفيق الحريري إلى الحكم عام 1992، لم يضع أي من ساسة لبنان خطة اقتصادية واضحة المعالم لانغماسهم في الحروب والمشاريع الخارجية. وعلى أنقاض الحرب الأهلية المدمرة أتى الحريري واضعاً سياسته الاقتصادية التي تعد السياسة الوحيدة في تاريخ لبنان والتي كانت قائمة على الاستدانة من أجل إعادة الإعمار وعلى سياسة تثبيت النقد لزوم النهوض الاقتصادي. وقد ارتبطت سياسته بحضوره المالي والاقتصادي الذي لم يُضاهه فيه أحد، فكان ركيزة أساسية لصمود الاقتصاد في وجه الحقد السياسي. عام 2019، ومع وصول الاقتصاد إلى الخطوط الحمر نتيجة التلكؤ في إجراء الإصلاحات واستفحال محاربة الحريرية والنكد السياسي، حاول الرئيس سعد الحريري بعد إفشال مؤتمر “سيدر” الذي عمل جاهداً على انعقاده كرافعة للاقتصاد بعد مرحلة طويلة من التعطيل والفراغ الرئاسي، استنهاض الاقتصاد عبر ورقته الاقتصادية التي تضمنت 24 بنداً من أبرزها إلغاء جميع الصناديق، فرض ضرائب على المصارف وشركات التأمين بنسبة 25 في المئة، تقديم مصرف لبنان والمصارف الخاصة 3 مليارات دولار إلى خزينة الدولة، رفع السرية المصرفية عن حسابات النواب والوزراء والمسؤولين في الدولة، خصخصة قطاع الاتصالات الخلوية، زيادة الضرائب على أرباح المصارف، إقرار قانون استعادة الأموال المنهوبة وتحويل معامل الكهرباء إلى غاز خلال شهر. أسقطت خطة الحريري تحت راية “كلن يعني كلن” من دون مراعاة خطورة هذه الخطوة اقتصادياً ومالياً. ومع اعتكافه، عوّل اللبنانيون على خطة اقتصادية غير حريرية تُشكل خارطة طريق جديدة علّها تُنقذ لبنان وتعيد بناء اقتصاده بعدما أشبعوها اتهامات باطلة ونسبوا إليها مسؤولية الانهيار.

إلى اليوم، مرّت ثلاث سنوات على استقالة الرئيس سعد الحريري وأكثر من عام على اعتكافه العمل السياسي، كانت كفيلة بتغيير واقع لبنان المالي وهويته الاقتصادية، فلبنان بعد سعد الحريري فاق بانهياره لبنان ما قبل رفيق الحريري، لا سيما أن الواقع أظهر وبصورة لا لبس فيها أن الأزمة ليست نتاج الحريرية السياسية والاقتصادية بل هي نتاج أمراء الحرب الذين لم يفكروا يوماً في ما هو أبعد من طوائفهم ومصالحهم وإن كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية العليا ونتاج محاربة هذه الحريرية بكل الوسائل المتاحة حتى كان ثمن ذلك تدمير لبنان وانهياره. فالحقيقة أثبتت أن لا أحد في لبنان لديه حجم رفيق الحريري ومكانته العربية والدولية وإرث سعد الحريري القادر على تغيير المعادلة والتحكم بمفاتيح اللعبة السياسية، ولم تكن كل هذه الدعوات إلى استبدال خطة الحريرية الاقتصادية بأخرى إنتاجية سوى حكاية شعار فضفاض انتهت بطريقة مأساوية وكارثية.

كان حجم رفيق الحريري وثقله الاقتصادي والمالي من أبرز الأسباب التي دفعت إلى اغتياله عام 2005، تماماً كما كان اسم سعد الحريري كضمانة اقتصادية من أبرز الأسباب التي دفعت أصحاب الانهيار إلى إقصائه عام 2019، فوجوده في اللعبة السياسية كان كفيلاً بتخفيف وطأة الانهيار ولجمه إلى حدّ لا يمكن له أن يُغيّر من معالم الاقتصاد اللبناني ومن مستوى معيشة اللبنانيين. فالغاية حينها كانت تُبرر الوسيلة وانهيار لبنان كان يتطلب إبعاد سعد الحريري عن الحكم، لكن الغاية والوسيلة كانتا ولا تزالان أسوأ أقدار اللبنانيين وأشدها حقداً وانتقاماً.

كلمات البحث
شارك المقال