عون – نصر الله… وحيدان بلا حلفاء؟!

أنطوني جعجع

انها من المرات القليلة، بعد العام ٢٠٠٥ التي يجد “حزب الله” نفسه وحيداً الى هذا الحد، ومن المرات النادرة التي يجد “التيار الوطني الحر” نفسه معزولاً، ان لم يكن منبوذاً، الى هذا الحد.

انه نتاج “زواج” عُقد على عجل، وقام على أمرين: رجل أراد أن يكون رئيساً بأي ثمن لا شهيداً لأي ثمن هو ميشال عون، ورجل أراد أن يبني “جمهورية” على قياسه لا العيش في جمهورية من صنع سواه هو حسن نصر الله.

وبعد ستة عشر عاماً على هذا “الزواج” العاجل لا يبدو أن “مار مخايل” في وارد القيام بأي معجزات، ولا يبدو أن المصلحة المشتركة في وارد المشاركة في محاصصات رئيسة، ولم تعد المعطيات الداخلية والخارجية كما كانت يوم ذاك “السادس من شباط” ولا كما كانت يوم أقامه ميشال عون في القصر الرئاسي.

ولعل الخطأ الذي وقع فيه “حزب الله” يتمثل في اعتقاده أن عون كان يريد الرئاسة فقط وليكن من بعده الطوفان، والخطأ الذي وقع فيه عون اعتقاده أن حسن نصر الله ملتزم دَيناً لا ينتهي، أو أنه يدير “جمعية خيرية” توزع العطايا والمكرمات من دون ضوابط ومن دون حساب.

كان ذلك قبل أن يكتشف حسن نصر الله أن عون، لن يتنازل عن الرئاسة الا لعضو من حاشيته، وقبل أن يكتشف عون أن حسن نصر الله يمارس مع بعض الموارنة لعبة “الوقوف بالدور” أي مرة لهذا ومرة لذاك، وذلك وفق حسابات خاصة لا تساير أحداً ولا ترحم أحداً.

ولعل الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الرجلان معاً اعتقادهما أنهما اللاعبان الوحيدان على ملعب يتسع لأكثر من لاعب عربي وغربي، وأن الظروف التي جمعتهما يوماً ما غير قابلة للتغيير أو التعديل أو التبديل.

وليس سراً أن “حزب الله”، وهو قارئ جيد في ملفات المنطقة، لا يرى في جبران باسيل رجل المرحلة الحرجة والدقيقة التي يتخوف منها سواء في الداخل أو في الخارج، وأن ميشال عون لا يريد الاعتراف بأن ارثه انتهى بمجرد الخروج من قصر بعبدا، ويصر على أن ما قدمه الى حسن نصر الله على المستويات المعنوية والسياسية والاستراتيجية والشعبية، يستأهل ما يشبه الحكم الملكي لا الحكم الجمهوري، وهامساً في كواليسه الخاصة، أنه أعطى “حزب الله” ما لم يستطع أن يأخذه من “مئة ألف مقاتل”.

والواقع أن عون، وهو قارئ سيء، كما معظم الموارنة، في المتغيرات الاقليمية والدولية، لا يدرك أن لدى حسن نصر الله الكثير من الانجازات التي يمكن أن يخسرها اذا فقد موقع الرئاسة الأولى، على عكس “التيار الوطني الحر” الذي لا يملك ما يخسره الا السلطة والسلطة فقط في غياب أي انجازات او علامات فارقة.

وليس سراً أيضاً أن عون ليس في موقع يحسد عليه، فهو خرج من القصر الرئاسي خالي الوفاض ورجلاً مهزوماً ومكسوراً ومغلوباً على أمره، ليجد صهراً منبوذاً ومرفوضاً من كل المسلمين والقسم الأكبر من المسيحيين، ومعزولاً من الدول العربية والغربية معاً، ورئيساً لتيار خائب من جهة وخائف من جهة أخرى، خائب بعد سنوات من رهان لم يحقق شيئاً وخائف من معادلة لا يملك فيها رئيساً في قصر بعبدا وغالبية في مجلس الوزراء وأخرى في مجلس النواب، إضافة الى بندقية شيعية كانت تنتصر له كلما تكاثرت عليه العداوات والمخاطر.

وفي وقت يردد حسن نصر الله في كواليسه: “ابعدوا عني هذا الفتى”، يقف الطرفان على طرفي نقيض، الأول أدرك أن عليه القتال وحده في معركة الرئاسة والتعيينات والتمديدات، وأدرك الثاني أنه قادر على المشاكسة والعرقلة وحسب، وأنه يحصد الاَن ثمن الفوقية الفجة التي مارسها في مواجهة الجميع من دون أي استثناءات أو خصوصيات.

اليوم أيضاً يشعر حسن نصر الله أن كلمته “لم تعد تمشي” كما كانت الحال من قبل، وأن ايران التي استقوى بها طويلاً لم تعد الجهة القادرة على الحسم في لبنان أو التفرد به، بعدما حاصرته واشنطن حتى حدود الاختناق وبعدما تحولت ايران الى الهدف الأول للدول الغربية والعربية التي ترى فيها الخطر الأكبر على المنطقة قبل حرب أوكرانيا والخطر الأوسع على أوروبا بعدها.

هذا الواقع، المرفق بضربات عسكرية اسرائيلية قاسية على مواقعه في سوريا ومطاردات أميركية تستهدف خلاياه في العالم، وبعد ضربات طاولت ترسانات طهران في قلب الجمهورية الاسلامية، إضافة الى هجمة عربية في اتجاه الرئيس بشار الأسد لسحبه من حضن ايران أو سحب الأخيرة من حضن سوريا، لا يدفع جبران باسيل الى الاقرار به ولا حتى تفهمه، واضعاً نفسه وتياره في المحور الآخر سواء قصداً أو عفواً، وهو أمر أفقده الغطاء الشيعي من دون أن يمنحه في المقابل لا الغطاء المسيحي ولا الغطاء العربي والدولي.

طرفان خاسران، لكنهما يواصلان القتال من باب المكابرة مرة ومن باب التعامي مرات، ليأخذا لبنان الى انتحار جماعي يضع “حزب الله” أمام واحد من خيارين: اما الانقلاب واما المساومة وهما أمران أولهما غير مضمون وثانيهما لا يُركن اليه، ويضع باسيل أمام واحد من خيارين آخرين: اما الانكفاء وهو أمر يلامس الالغاء واما الاكتفاء بحصاد هزبل لم يصنع منه لا شمعون جديداً ولا بشيراً آخر.

انها في اختصار، رحلة رجلين لا رحلة شعبين، رجل ظن أنه قادر على الانتصار دائماً، ورجل ظن أنه قادر على الانفلات دائماً، وذلك قبل أن يدرك نصر الله أن مئة ألف مقاتل ليسوا سوى رقم غير قابل للصرف في كل الأوقات، وقبل أن يدرك عون أن “سبعين في المئة” من المسيحيين ليسوا سوى رقم آخر غير قابل للمراوحة في كل الأوقات.

لقد انتصرا معاً في لحظة محلية وإقليمية ودولية مؤاتية، وها هما ينهزمان أو يتعثران معاً في اللحظة التي لم تعد ايران في موقع يسمح لـ”حزب الله” باحتكار القوة والقرار، ولم تعد أميركا تسمح لجبران باسيل باستغلال السلطة والمواقع أو التماهي مع “المقاومة الاسلامية”، في خطوة تعرف الأخيرة أنها لا تبشر بالخير، ويعرف عون أنها لا تبشر بالنهايات السعيدة.

في اختصار، يخطئ من يظن أن الصراع ينحصر بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” منتظراً أن يعرف من هو المغلوب أو الغالب بينهما، انه صراع يخوضه نصر الله مع واقع محلي جديد لم يكن في الحسبان وواقع اقليمي مأزوم لم يتوقعه بهذا الحجم، وصراع يخوضه باسيل مع نفسه أولاً ومع الخارج ثانياً ومع طواحين الهواء دائماً. وحده سليمان فرنجية يقف في الوسط خائفاً من أن يخرج من المعادلة الرئاسية نهائياً، فهو يعرف أن ممارسات “حزب الله” أحرقته سياسياً ولا تزال، وأن ميشال عون الذي سحب الرئاسة من فمه في المرة الأولى يصر على سحبها في المرة الثانية، ليصبح بذلك الرجل الذي التزم خط الممانعة من دون أن يحصد شيئاً، وليصبح عون الرجل الذي استغل هذا الخط وكاد يحصد كل شيء.

شارك المقال