عندما يكون الموارنة الداء والدواء!

صلاح تقي الدين

لا يختلف إثنان على أن المشكلة الحقيقية في استعصاء انتخاب رئيس جديد للجمهورية تعود إلى اختلاف أقطاب الموارنة على الاتفاق على مرشح واحد يستطيعون فرضه على كل القوى السياسية فيصار إلى انتخابه ليكون حامياً لدستور الأمة وراعياً لمصالح اللبنانيين جميعاً وحكماً بينهم في ما لو اختلفوا، ومن هنا يمكن اعتبار اختلاف الموارنة الداء واتفاقهم الدواء.

بعد انتخاب مجمع المطارنة الموارنة في العام 2011 مطران جبيل بشارة بطرس الراعي بطريركاً على أنطاكية وسائر المشرق خلفاً للبطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير الذي استقال من منصبه في ذلك العام لعلة تقدمه في السن، كان العمل الأول الذي شرع في القيام به هو مصالحة قطبين مارونيين شماليين هما رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس تيار “المردة” النائب والوزير السابق سليمان فرنجية، اقتناعاً منه بأن هذه المصالحة ستكون الخطوة الأولى الضرورية على طريق توحيد كلمة الموارنة وإنهاء لخلاف عميق تعود جذوره إلى العام 1978 حين وقعت مجزرة اهدن التي قادتها “القوات” وراح ضحيتها الوزير السابق طوني فرنجية وأفراد عائلته ونجا منها ابنه سليمان بالصدفة.

وكان الخلاف الماروني الثاني والأكثر حدة هو بين رئيس “التيار الوطني الحر” النائب ميشال عون وجعجع وتعود جذوره إلى ثمانينيات القرن الماضي إثر الحرب الشنيعة التي شنّها عون عندما كان قائداً للجيش اللبناني ضد “القوات” وعرفت باسم “حرب الالغاء” وكان يهدف من خلالها إلى “تقليد” الرئيس الشهيد بشير الجميل بتوحيد “البندقية المسيحية” وبالتالي توحيد الصف المسيحي خلفه كمرشح وحيد لرئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس السابق أمين الجميل، لكنها كانت حرباً فاشلة بكل المعايير وأساءت إلى الوجود المسيحي ككل ضمن التركيبة السياسية بانت أولى نتائجها في مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992 وغياب الدور المسيحي الفاعل في الحياة السياسية اللبنانية.

لطالما تميّز لبنان ضمن محيطه العربي بأنه الدولة الوحيدة التي تعيش فوق أراضيها أكثر من 18 طائفة ضمن تركيبة تعايش مشترك تحفظ حقوق جميع أبنائها مع ميزة إضافية هي أن رئيسها ماروني لا بل المسيحي الوحيد الذي يرأس دولة عربية فاعلة ضمن جامعة الدول العربية. غير أن خلاف الموارنة كان سبباً رئيساً ومباشراً في تعطيل الحياة السياسية مرات عديدة منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، ذلك أن أحداً من أقطابهم لا يريد أن يرى غيره رئيساً، ويعتبر ذلك حقاً طبيعياً له دون الآخرين.

وإذا كان الخلاف الماروني الداخلي لم يترجم رئاسياً بين العامين 1990 و2007 بسبب وجود الضابط السوري المهيمن على لبنان والناظم لكل مفاعيل الحياة السياسية فيه، إلا أنه تمظهر بصورة فاضحة بعد الخروج السوري وعقب انتهاء ولاية اميل لحود في العام 2007، بحيث بدأت ملامح الحلم “العوني” بالوصول إلى سدة الرئاسة بالتفاعل داخلياً بدعم من النفوذ الايراني الذي يجسّده “حزب الله”، فكانت فترة الشغور الأولى والتي استمرت من تشرين الثاني 2007 إلى أيار 2008 شهدت خلالها البلاد غزوة 7 أيار التي شنها الحزب في بيروت والجبل وانتهت باتفاق الدوحة الذي أوصل ميشال سليمان إلى قصر بعبدا.

ثم عاد الخلاف الماروني مجدداً عند نهاية ولاية سليمان في العام 2014 واستمر حتى العام 2016 بحيث لم يكن هناك أي احتمال لتراجع شهية عون الرئاسية على الرغم من نجاح البطريرك الراعي في جمع الأقطاب الموارنة في بكركي واتفاقهم ضمنياً على أن يكون الرئيس واحداً منهم وهم إضافة إلى عون، الجميل وجعجع وفرنجية، لكن تمترس كل واحد من هؤلاء أمام حلمه جعل مهمة التوافق شبه مستحيلة.

لم تستقم الأمور إلا بعدما توافق الطرفان المارونيان الأقوى أي جعجع وعون على أن يتنازل الأول لصالح الثاني ودعم ترشيحه للرئاسة بهدف قطع الطريق أمام فرنجية الذي شكّل في حينه الحاجز الأقوى أمام وصول أي من الاثنين إلى بعبدا، فكانت ورقة تفاهم معراب المشؤومة التي جعلت من عون المرشح الماروني الأقوى وبالتالي تعبدت الطريق إلى بعبدا أمامه.

ويتجدد الخلاف الماروني بوضوح أكثر اليوم بعد 4 أشهر على انتهاء ولاية “العهد القوي” الذي دمّر هيكل الدولة وبنيانها، وهو يتمثل في طموح رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الى وراثة عمه في قصر بعبدا، فيقوم بكل ما في وسعه لتحطيم وتهميش صورة أي مرشح ماروني آخر بدءاً من النائب ميشال معوض مرشح القوى السيادية وصولاً إلى قائد الجيش العماد جوزيف عون، من دون أن ننسى معارضته الشرسة لفرنجية.

وعلى الرغم من أن البطريرك الراعي حاول ولا يزال جمع الأقطاب الموارنة في بكركي علّهم يتفقون على اسم قادر على أن يكون حاكماً وحكماً بين اللبنانيين، إلا أنه لم يخفِ “غضبه” من عدم تجاوبهم مع دعوته الى الحوار لكنه في الوقت نفسه أبدى عدم “يأسه” من احتمال نجاح مسعاه الذي يقوده عبر راعي أبرشية أنطلياس المطران أنطوان بو نجم الذي يجول بين القيادات المارونية سعياً الى لم كلمتهم ودفعهم إلى القبول بالحوار تحت مظلة بكركي.

عندما يختلف الموارنة ينعكس الوضع سوءاً على البلد بأكمله وهذا ما بات واضحاً وجلياً، إذ أن الشغور الرئاسي ووجود حكومة تصريف أعمال لم يؤديا إلا إلى المزيد من الانهيار الذي تسبب به “العهد القوي” البائد، ولن يتوقف إلا مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية على الرغم من أن ذلك لن يكون الحل إلا أنه سيكون بداية وضع القطار على السكة، وعندما يتفق الموارنة يعود الانتظام إلى الحياة الدستورية. وليس أمام اللبنانيين سوى الانضمام إلى دعوة البطريرك الراعي وصلواته بأن يحل على الأقطاب الموارنة “الروح القدس” لكي يخففوا من غلوائهم ويتطلعوا إلى الصالح العام قبل الصالح الخاص.

شارك المقال