جدل “أطفال الأنابيب” و”زواج المتعة” يملأ الفراغ الرئاسي

عبدالوهاب بدرخان

إختار “حزب إيران/ حزب الله” رئيس مجلس النواب ليكون رأس حربة المواجهة بين إيران والقوى الخارجية في شأن هوية رئيس الجمهورية المقبل، إذا قُدّر له أن يُنتخَب. تسمية “الثنائي الشيعي” لم تعد دقيقة، فهناك تابعٌ ومتبوع وجهة واحدة آمرة. مرّة أخرى يسقط التمايز بين “واقعية” تُنسب الى حركة “أمل” و”انقلابية” يتّسم بها “الحزب”، لكن الجميع يعلم أن الفوارق ساقطة. لم يعد “اعتدال” الحركة مضلِّلاً، وإذا تظاهرت به قولاً فإنها لا تستطيع المضي الى الفعل. “الحزب” هو مَن يحكم في لبنان وعندما أمر أكثر من مرّة بتعطيل البرلمان أو بإغلاقه كان له ما أراد، معتمداً على تخريجات لن يعجز “الأستاذ” عن إيجادها. لكن التركيبة الحالية المشرذمة للمجلس، والخلاف العقيم بين “الحزب” والحليف (السابق) العوني، وتعطّل الرئاسات الثلاث، عمّقت أزمة النظام وسدّت الآفاق أمام “الحاكم بأمره”.

هي المواجهة دفعت الى تكليف الرئيس نبيه بري بخرق الصمت والغموض ليعلن أن “مرشّحنا معروف”، وهل كانوا يظنون أنه مجهول؟ نعم، هو معروف بأنه مرشّحهم ولذلك لم يستطع حتى الآن تحصيل العدد اللازم من الأصوات، ولأنه “معروف” فإن انتخابه مستعصٍ. لا أحد ينال من سليمان فرنجية شخصياً، ولا داعي لذلك أصلاً، فالمسألة تتعلّق بخطّه السياسي الذي لا يزال يجاهر ويفاخر به متجاهلاً أنه بات عبئاً عليه وليس ميزة له، سواء في جانبه الإيراني أو في جانبه الأسدي. هذا الخطّ، بوجهيه هذين، برهن قولاً وفعلاً أنه لا يضمر الخير للبنان وشعبه ولم يُبقِ مساحة ولو ضئيلة لفضيلة الشك بأنه ربما أُسيء فهمه أو أُسيء الظن به. هذا الخطّ يصعب على فرنجية أن يكفّ شروره أو أن يكون ضامناً حسن سلوكه في لبنان أو أن يطوّعه أو أن يُسمح له بأن يحلم بتغييره. كل هذه الاحتمالات كانت موضع مراهنة على ميشال عون، وقد أخفقت وسقطت جميعاً، ولا مجال لتكرارها.

في المرة المقبلة قد ينوب بري عن “حزب إيران” ليتبرّع بالقول “مرشّحنا أو لا أحد”. أما لماذا اختار “الحزب” تصعيد المواجهة، عبر رئيس حركة “أمل”، فلأنه تيقن من بديهيات عدة: أولاً، ظنّ أنه طوّع الداخل وفقاً لمشيئته لكنه لا يراه مطواعاً وليس فيه من هو مستعدّ لتسوية خادعة كما في 2016. ثانياً، أنه بالغ في الاستناد الى دوره في ترسيم الحدود مع إسرائيل لعقد مراهنة خاطئة على أن يمرّر الموقف الخارجي (اجتماع باريس وتحرّك السفراء الخمسة) “مرشّحه المعروف”. ثالثاً، أنه استشعر على العكس نية خارجية بتوريطه وإغراقه في المأزق الداخلي المعقّد، وهو لا يريد ذلك لأنه لم يسعَ مرّة الى حل مشكلات الداخل ولم يُظهر قدرةً على بناء شيء من الاستقرار، بل اعتاد أن يؤزّم الداخل لتمرير أهداف إيران.

أما البديهية الرابعة، الواهمة، فهي أن “حزب إيران” اعتقد أن الخارج محرج و”محشور”، واعتمد على فرضية أن هناك خيارين يفضيان الى النتيجة نفسها، ولا ثالث لهما: إما أن الخارج يعتبر فعلاً انتخاب رئيس جديد خطوة ضرورية لانطلاق التعافي اللبناني وعليه في هذه الحال أن يقرّ بأن هذا الاستحقاق لا يمرّ من دون موافقة إيران و”حزبها”، أو أن الخارج قال ما عنده ولا مجال لأن يتدخّل أكثر، وبالتالي فإنه يترك الاستحقاق في كنف الداخل مقرّاً بالأمر الواقع، أي بعدم ممانعة انتخاب مرشّح إيران و”حزبها”… لكن ما يقلق “الحزب”، مع ذلك، أن انتخاب مرشحه قد يعني استمرار الأزمة وتفاقمها، وعندئذ يصبح وحده مسؤولاً عنها ومن دون أي شريك.

لعل الحقيقة التي أزعجت “حزب إيران” وصدمته اكتشافه أنه لم يستطع إخراج السعودية أو التأثير العربي من المعادلة الداخلية، على الرغم من كل القوة التي يتمتع بها والمحاولات المكشوفة التي بذلها. فعلى عكس ما فعل لم تتبنَّ السعودية مرشحاً، ولم تبحث عمّن “يحمي ظهرها” أو عن رئيس يحكم بأمرها أو توجّه ميوله الى هذه الجهة الغربية أو تلك. والأهم أن ليس لديها كتلة برلمانية وازنة ولم تسعَ الى اختراق الكتل الأخرى. كان المعيار الوحيد الذي وضعته السعودية أن مصلحة لبنان تقتضي أن لا يكون رئيسه خاضعاً لإيران و”حزبها”، ولا أحد يستطيع نقض هذا المعيار أو رفضه، لا في الداخل ولا في الخارج. ويتفرّع عن هذه الحقيقة التي أُبلغت الى الأطراف كافةً أن “الحزب” يمكن أن يخلق ظروفاً تأزيمية لفرض مرشحه، لكنه لا يستطيع أن يفرض على القوى الخارجية المعنية، ومنها السعودية، دعم رئيسه أو “عهده” الثاني في السيطرة على الدولة اللبنانية.

في أي حال، وفي ضوء المسؤوليات الجسيمة التي تتطلّبها مرحلة شلل المؤسسات، تبدو المواجهة التي يخوضها برّي خدمةً لـ “الحزب”، أي لإيران، بلا أي معنى، أو هروباً من الواقع بحرق جميع المرشّحين، بمن فيهم “المعروف” الذي زاد انكشافاً وغرقاً في وحول حلفائه. ففي الوقت الذي صدر بيان “مجموعة الدعم الدولية للبنان”، بتحذيراته الجدّية من مخاطر “استمرار الفراغ الرئاسي، وغياب الإصلاحات، وتصلّب المواقف، وازدياد الاستقطاب…”، يندلع الترادح بـ “التجربة الأنبوبية” و”زواج المتعة”. كان بإمكان رئيس المجلس أن يكتفي بالقول إن المرشّح ميشال معوّض “بلا تجربة” في الحكم والإدارة، لكن الفطنة خانته فأقحم نفسه في مسألة “الأنابيب” من دون أن يتهيّب توجيه إهانة شخصية لنائب منتخب ليس “بلا تربية” ولم يسبق أن تعرّض لأحد، وبالتالي فإن برّي لم يحسن دق الباب وكان عليه أن يتوقّع الجواب. أما الجدل على “زواج المتعة” فشكّل نكتة أكثر سماجة من “التجربة الأنبوبية”، خصوصاً أن “الحزب” اعتبرها تعبيراً عن “انحطاط فكري وثقافي”!!! متناسياً أنه السبّاق في صنع هذا الانحطاط.

شارك المقال