كمال جنبلاط… إغتياله بداية للجريمة السياسية المستمرة!

زياد سامي عيتاني

تاريخ السادس عشر من آذار 1977، كان بداية لعصر الإغتيالات في لبنان!

إنه اليوم الذي ودع فيه اللبنانيون رجلاً سياسياً إستثنائياً، لا يشبه سواه من الساسة التقليديين… إنه كمال جنبلاط، المعلم، والزعيم، والفيلسوف، والمفكر، والثائر، والمشاكس الجريء والشجاع… في ذلك التاريخ المشؤوم، كان لقاؤه مع القدر والإغتيال!
وذلك عندما غادر بسيارته “المرسيدس” القصر القرميدي في المختارة، حيث كان من يترصدها في الطريق، وما إن وصلت الى ساحة بعقلين، منحدرة باتجاه بيروت، حتى تكلم “الكلاشينكوف”، برصاصاته الغادرة الحقودة، وأسكت واحداً من أعلى الأصوات دوياً في لبنان!

عن ذلك اليوم، روى عصام أبو زكي الضابط في المباحث الجنائية (الذي صار لاحقاً قائداً للشرطة القضائية)، وهو من المقربين جداً من كمال جنبلاط، أنه “كان متوجهاً من بيروت إلى بعقلين، وعند وصوله إلى مفرق بلدة دير دوريت شاهد سيارة من طراز “بونتياك”، لونها أسود وأحمر، تحمل لوحة عراقية، متوقفة فوق حافة الطريق مفتوحة الأبواب، الأمر الذي أثار إستغرابه وتخوفه، فتساءل عن سبب وجودها في تلك الظروف الأمنية الحرجة في منطقة تتواجد فيها قوات سورية!؟”

وفيما تابع سيره، وجد أن مخاوفه في محلها، إذ فوجئ عند المنعطف بوجود جثتين على الأرض إحداهما بلباس عسكري والثانية بلباس مدني، مما دفعه على الفور وبحسه الأمني للربط بينهما وبين سيارة الـ”بونتياك”.

وما إن أكمل سيره حتى رأى بأم العين على مقربة من مكان الجثتين، الجريمة الكبرى، لا بل الفاجعة الوطنية (!) سيارة كمال جنبلاط الـ”مرسيدس” التي تحمل الرقم (5888)، فركن سيارته، وتوجه نحو سيارة جنبلاط، ليُصعَق ويُفجَع، إذ رأى جنبلاط في داخلها جثة والدم ينزف منها!

فتكشفت أمامه خلال لحظات أهوال فجيعة تصفية كمال جنبلاط، ليس على صعيد الطائفة الدرزية فحسب، إنما على صعيد لبنان بأسره، وعلى المشروع الوطني الذي إغتيل كمال جنبلاط ليُغتال معه!

على الفور، إمتزجت في داخله مشاعر الحزن والأسى الكبيرين، مع واجبه الأمني الوظيفي، فلم يتردد في الأخذ على عاتقه المبادرة الفورية الى الحفاظ على مسرح الجريمة، وضبط الرصاصات التي تُرِكت في المكان، خصوصاً بغياب أي وجود أمني!
ثم استدعى مصوراً لإلتقاط بعض الصور، ونقل السيارة إلى المختارة…

وقد تبين بعد ذلك، أن الجناة حاولوا الفرار من مكان جريمتهم، لكن سيارتهم تعطلت، مما دفعهم لسرقة سيارة أخرى، توجهوا بواسطتها إلى مكتب تابع للمخابرات السورية، كان يديره آنذاك النقيب إبراهيم حويجة، الذي تم تعيينه قائداً للمخابرات الجوية بعد ترفيعه إلى رتبة لواء!

ويُنقل عن مقربين من الشهيد كمال جنبلاط، أنه كان في قرارة نفسه يتوقع اغتياله، لا بل كان ينتظره في أي وقت(!) خصوصاً بعد أن تعرض منزله في بيروت إلى حادث إنفجار قبل شهرين من إغتياله. كما كانت جرت محاولة مماثلة في 26 أيلول عام 1976، فيما كان عائداً من لقاء جمعه مع الرئيس المنتخب آنذاك بدعم سوري الياس سركيس.

ومردّ هاجس الإغتيال الذي خيّم على جنبلاط، يعود إلى اللقاء “العاصف” والأخير الذي جمعه بالرئيس السوري حافظ الأسد، حيث نُسجت روايات كثيرة حول هذا اللقاء، الذي يُقال إنه دام سبع ساعات وانتهى بخروج جنبلاط متوتراً من دون أن يودّع الأسد أو يصافحه!

في موازة ذلك، كانت تصل إلى الشهيد جنبلاط معلومات من أصدقاء مشتركين بينه وبين الأسد، أن الأخير يحمّله مسؤولية الحرب في لبنان، وكان يستفيض أمام زواره اللبنانيين في إظهار غضبه من كمال جنبلاط، مع تأكيده على أنه تم عزله سياسياً، وأوصدت كل الأبواب في وجهه، ولن تجدي كل محاولاته لإعادة فتحها!

بعد 46 عاماً على جريمة إغتيال “المعلم”، وككل الجرائم السياسية التي تُنفّذ بأدوات عسكرية – أمنية، لم يصدر أي قرار حول الجناة الحقيقيين، وبقيت القضية طي الكتمان في أدراج الدولة اللبنانية، وخاصة في ظل عدم تقديم الجناة للمحاكمة، على الرغم من وجود الكثير من الشهود والأدلة!

وفي هذا الإطار، يقول نجل الشهيد زعيم الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط: “التحقيق توصل إلى أن مكتب المخابرات السورية في بيروت، الذي كان يرأسه إبراهيم حويجة، هو الذي قام بعملية الإغتيال”.

مهما إختلفت النظرة السياسية تجاه كمال جنبلاط، إلا أنّه لا يمكن إلا أن يُشهد له، بأنه ولد في بيت إقطاعي كبير، وورث الزعامة بفعل هذا النموذج الإقطاعي، إلا أنّه سعى لإغلاق باب الماضي الإقطاعي، عندما قال بعد دفن والدته، بأنه يدفن معها آخر إقطاعي في عائلته.

دخل في الحداثة، التي كان يشهدها المجتمع الدولي منذ الحرب العالميّة الثانيّة وما بعدها، فمارس قناعاته الفكريّة المستمدة من فلسفته الروحيّة والإنسانيّة. لم يختلف عن قادة زمانه في ذلك العصر، عصر الصراع الإيديولوجي، فبين الرأسماليّة والإمبريالية وحركات التحرر التي قامت في دول آسيا وإفريقيا وبعض العالم العربي، إنحاز كمال جنبلاط إلى حركات التحرر، وإتخذ موقفا فكريا واضحا إلى جانب قضايا الإنسان والحريات والعدالة.

وهذا ما دفعه إلى إنشاء حزب سياسي، منحه فكره وعلمه وفلسفته، متّبعاً نماذج الكبار من أمثال غاندي، وجواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر.

إغتيال كمال جنبلاط، كان بداية لعصر الإغتيالات السياسية المتفلتة والمتمادية والقاتل واحد!

شارك المقال