بين الثورة السورية وطرابلس… حكايات ببصمة الدم!

إسراء ديب
إسراء ديب

في رحلتها من تلكلخ السورية إلى طرابلس، تستذكر أم محمود شريط ذكرياتها مع الثورة السورية التي اندلعت عام 2011، إذْ لم تنسَ الآلام التي رافقتها واللعنة التي أصابت بلادها وعائلتها ودفعتها إلى الانتقال عام 2013 إلى باب التبانة هرباً من نار الحرب التي فقدت على إثرها ابنها محمود، الذي لا يزال ضمن عداد “المفقودين” في سوريا حتّى هذه اللحظة من دون معرفتها الأسباب بوضوح.

في الواقع، أخفت أم محمود ك. (47 عاماً) حقيقة مناهضتها النظام السوري منذ بداية الحرب، ولم يقم أيّ من أبنائها بحمل سلاح أو تسجيل موقف معلن ضدّه، إلا أنّ حسرة وغصّة كبيرة في قلبها تظهر مباشرة على ملامحها عند تحدّثها عن نجلها الأكبر (29 عاماً) الذي كانت وُعدت بانتقاله بعدها إلى شمال لبنان، إلا أنّه لم يأتِ أبداً.

وبعد تواصلها مع أحد أقربائها في المدينة التابعة لمحافظة حمص، قيل لها إنّ ابنها فقد بعدما ألقت القبض عليه السلطات السورية ولم يعرف أحد عنه خبراً حتّى اللحظة، “فصحيح أنّ ابني لم يُعلن يوماً موقفه السياسي وكنت أضغط عليه لعدم التحدّث في أيّ موضوع سياسيّ خشية عليه من الاستغلاليين، لكن بعد المعلومات التي وردتني وعجزي التام عن السؤال عنه أمام السلطات السورية، أخشى عليه أكثر لأنّه شخصية خجولة وغامضة”، وفق ما تقول لـ”لبنان الكبير”.

وبعد تهديد مجموعة طائفية ومناصرة للنظام عائلات هذه المدينة وغيرها من المدن في المحافظة بالاقتحام والقتل، هجرت أم محمود منزلها ونزحت مع بناتها الثلاث وابنها الأصغر إلى باب التبانة، ومن هنا بدأت قصّتها في هذه المنطقة الطرابلسية التي تُعدّ الشاهدة الأولى على مظاهر الفقر المدقع في الفيحاء، حيث تروي أنّ حياتها انقلبت رأساً على عقب، وظروفها الاقتصادية الصعبة دفعتها إلى العمل في تنظيف المنازل خصوصاً بعد تعرّض زوجها لنكسة صحية أصابت قلبه وأبقته مرغماً في منزلهما الكائن في سوق الخضار.

لا تُخفي أم محمود أنّ طرابلس لا سيما أحياؤها الشعبية كانت الأكثر استقطاباً للاجئين السوريين، “فهذه المدينة التي ندرك تاريخها مع النظام السوري كانت وما زالت بيئة حاضنة لنا خصوصاً باب التبانة التي أحبّ، فصحيح أنّ السوريين باتوا يسمعون كلاماً سيئاً كشتائم من هنا أو لوم من هناك، لكن طرابلس وعلى الرّغم من عدائها مع النظام واعتقاد البعض أنّنا نتبعه، كانت لا تُشعرنا بالغربة التي لم نخترها بمحض إرادتنا بل فرضت علينا”.

بدورها، تعترف داليا وهي من حمص وتعيش في التبانة أيضاً، أنّ ما ارتكبه النظام في البلاد يدفعهم إلى الانتقال “من السند إلى الهند” لا إلى طرابلس فحسب، وتقول لـ “لبنان الكبير”: “لا ننسى رفعت الأسد وهو يقول بعد نزوله من المروحية العسكرية (سندعسكم واحداً تلو الآخر، ولن نترككم على قيد الحياة)، وبعد مقتل معظم أبناء عائلتي، هربنا إلى لبنان بصورة عاجلة، ونتمنّى العودة لكن بلا أسد وبلا ظلم، فالشعب السوري يعيش مأساة أقلّها في طرابلس مع شعبها الطيّب، البسيط والمتقبّل”.

في الواقع، لم يُظهر الطرابلسيّون عداء للشعب السوري المناهض للنظام منذ اندلاع الثورة السورية، فلم تُحرق لهم خيمة ولم يُطرد أيّ منهم من منزله أو عمله بحجّة أنّه سوري، وعلى الرّغم من شعور بعض السوريين باستغلال بعض أصحاب المنازل والمحال لهم نظراً الى دعم مفوّضية اللاجئين للكثير منهم بغضّ النظر عن عملية الفصل التي طالت معظمهم أخيراً، فلم ينعكس هذا الاجراء الدّولي على الدعم الشمالي لأبناء الثورة الذين ترك معظمهم لبنان عبر الهجرة غير الشرعية للانتقال إلى الدول الأوروبية.

لم تكتفِ الفيحاء الثائرة كالمعتاد باحتضان السوريين وحسب، بل غرّر ببعض شبّانها للتوجه إلى سوريا لأخذ ثأرهم عقب ذروة من الظلم والتجنّي من النظام الذي أباح لنفسه قتل الطرابلسيين وذبحهم لا سيما من أبناء باب التبانة في الثمانينيات، ليتنصّل كلّ المسؤولين لا سيما بعض رجال الدّين من هذا “الاغراء” الذي حوّل الكثير من شبان المدينة إلى إرهابيين أو إلى مشروع فتنة وتطرّف كانت ولا تزال القوى الرسمية هي من تتحمّل مسؤوليته بتغطيتها للمرسلين إلى الآن بعدما أفلتوا من العقاب وحتّى السؤال. في حين تكشف إحدى المواطنات من أبي سمراء لـ “لبنان الكبير” أنّ ابن خالتها كان أحد الشبان الذين وقعوا في شباك أحد رجال الدّين الذي لم يُحدّثهم عن القتال ضدّ النظام بالعتاد والسلاح، بل قيل لهم إنّهم سينقلون الأرز والبرغل إلى إحدى المحافظات السورية كما حصل مع مئات الشبان، “ولم يكن قريبي يعلم أنّه سيكون في جبهة قتالية في لحظة كان يرغب فيها بمساعدة السوريين لا القتال ضد أحد، فقتل هو وكان ضحية لجريمة أودت بحياة والدته بعد تدهور صحتها عقب وصول خبر وفاته”.

بالفعل، لم ينسَ أبناء طرابلس الثورة السورية، إذْ يأمل الكثيرون منهم حتّى بعد مرور 12 عاماً على اندلاعها، بحتمية هزيمة الرئيس السوري بشار الأسد وانتصار الثورة بأيّ طريقة، ولا يُمكن إغفال أنّ يوم الجمعة من كلّ أسبوع، كان يوماً “مقدّساً” كرّس على مدى أعوام للمسيرات المؤيّدة للشعب السوري وثورته “المجيدة” كما يقولون، فقد كان ينتظر المئات منهم انتهاء الصلاة ليخرجوا عقبها بتظاهرات ومسيرات تجوب الشوارع وتُرفع خلالها أعلام الثورة السورية ورايات إسلامية مع إطلاق شعارات ونداءات مندّدة بنظام الأسد الذي تكرهه طرابلس حتّى النخاع، ولم تتمكّن أيّ أحداث سياسية أو أمنية من تغيير هذا التوجه نظراً الى عدم رغبة الطرابلسيين في الانقلاب على مواقفهم ومبادئهم التي ترعرعوا عليها وهم أكثر من ربّى أولاده سياسياً على كره النظام بلا حدود رداً على ألف جريمة وجناية سرقت خيرات المدينة مادياً وبشرياً.

يُمكن القول إنّ المعتقد أو الايديولوجيا “السنّية” هي من تدفع الطرابلسيين إلى التمسّك بالثورة السورية والنازحين السوريين، إذْ لا يُمكن إغفال الارتباط الديني الكبير الذي يجمعهم عند كلّ موقف مهما اختلفت التوجهات، وأنّ فكرة “الهجمة على السنّة” والتي عرفت جلياً وباعتراف اللاجئين في سوريا وغيرها، دفعت معظم المواطنين إلى عدم الاستغناء عنهم نصرة لدينهم ومعتقدهم.

ولم يكن الخبر الذي تداوله ناشطون عبر المواقع أخيراً، عن تعرّض “ط.د” وقيل إنّه ضابط سابق في الجيش السوري للاعتداء بالضرب أثناء وجوده في منطقة التبانة، سوى دليل واضح على كره الطرابلسيين لهذا النّظام، وهي ليست المرّة الأولى التي يتحدّونه فيها، وإنْ لم يكن بالضرب فبأسلوب الطرد، ووفق معطيات “لبنان الكبير”، طرد أحد العناصر المناصرين للنظام من منطقة الزاهرية منذ عامين تقريباً بعد كشف انتمائه السياسي والعسكري السابق، ما دفع الأهالي إلى تهديده بالضرب إنْ لم يخرج من المنطقة، لينتقل إلى منطقة أخرى مع عائلته التي كانت تعمل في المنطقة عينها.

شارك المقال