توسع الناتو يغيّر قواعد اللعبة الجيوسياسية

حسناء بو حرفوش

ما هو الفارق الذي سيحدثه انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو؟ حسب تقرير للمحلل الألماني لوكاس هاسبروك في موقع ips-journal الالكتروني الأوروبي، من شأن ذلك أن يسد الفجوة في التخطيط الدفاعي الخاصة بالأراضي الشرقية للحلف. ووفقاً للمقال، “لا شك في أن إستونيا ولاتفيا وليتوانيا تمثل تحالفاً استراتيجياً عبر الأطلسي. وتقع دول البلطيق الثلاث بين بيلاروسيا في الجنوب الشرقي ومكتف كالينينغراد الروسي في الغرب. وهي مرتبطة ببقية الحلف فقط من خلال ممر ضيق على الحدود البولندية الليتوانية. وفي حالة حدوث نزاع، يمكن الاستيلاء على هذا الممر من قبل قوات العدو وسيتم عزل دول البلطيق عن حلفاء الناتو الآخرين. سيواجه الناتو بعد ذلك معضلة: إما قبول الأمر الواقع الروسي، وبالتالي فقدان مصداقيته أو محاولة استعادة الأرض المفقودة، وبالتالي يخاطر بحرب واسعة النطاق مع روسيا، مع عدم إمكان استبعاد خطر التصعيد النووي تماماً.

تغيير ميزان القوى

ومع ذلك، يغير انضمام فنلندا مؤخراً إلى الناتو وانضمام السويد الوشيك، هذه الحسابات العسكرية بصورة أساسية. فالامتداد الشمالي للحلف هو عامل تغيير جيوسياسي حقيقي، ويجعل إلى حد كبير الدفاع عن دول البلطيق عملية بسيطة. والأهم من ذلك، كانت جمهوريات البلطيق الثلاث من بين أوائل الدول الأعضاء التي صادقت رسمياً على الانضمام. بالنسبة الى ليتوانيا على وجه الخصوص، يمثل الانضمام الناجح هدفاً مهماً للسياسة الخارجية بحيث ستستضيف القمة المقبلة لرؤساء دول وحكومات الناتو.

وبالنسبة الى حلف الناتو، تمثل فنلندا والسويد أصولاً سياسية وعسكرية قيمة، فكلاهما يمتلك قوات مسلحة حديثة جيدة التجهيز وأنظمة ديموقراطية مستقرة. ويشكل الانضمام إلى الناتو “ثورة كوبرنيكية” في السياسة الخارجية والدفاعية لكل من فنلندا والسويد. وهكذا تخلت الدولتان عن تقاليدهما القديمة في عدم الانحياز العسكري. وفي إطار مواجهة الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بالنسبة الى حكومتي البلدين، يمثل الانضمام إلى حلف الناتو في الأساس مسألة تأمين ضمانات إضافية تتجاوز قدراتهما الوطنية.

وتمثل فنلندا والسويد أصولاً سياسية وعسكرية قيمة بالنسبة الى الحلف. وتنفق السويد حالياً حوالي 1.3% (حوالي 8.4 مليارات دولار) من ناتجها المحلي الاجمالي على الدفاع. كما أعلنت الحكومة أنها تعتزم الوصول إلى نسبة 2% بحلول العام 2028. وتتمتع ستوكهولم بموقع جيد خصوصاً في ما يتعلق بالقوات البحرية والدفاع الجوي. وستستفيد المجموعة البحرية الدائمة التابعة لحلف الناتو، على سبيل المثال، من الغواصات الخمس التابعة للبحرية السويدية، والمسؤولة من بين أمور أخرى عن الدفاع عن بحر البلطيق.

وتبلغ ميزانية الدفاع الفنلندية بالفعل 2% من الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 6 مليارات دولار). ومع ذلك، تخطط وزارة المالية لزيادة أخرى قدرها 2.2 مليار دولار للفترة من 2023 إلى 2026. وفي شباط 2022، تم توقيع اتفاقية مع الولايات المتحدة لشراء 64 طائرة مقاتلة من طراز F-35، التي من المقرر أن تحل محل طائرات F/A-18 الأقدم للقوات الجوية الفنلندية بحلول أوائل 2030، وتبلغ قيمتها حوالي 8.4 مليارات يورو، وهي أكبر عملية شراء عسكرية لفنلندا على الاطلاق. 

بحر البلطيق… البحر الداخلي للناتو

يكفي إلقاء نظرة سريعة على الخريطة لإظهار مدى تأثير التغييرات التي أحدثها انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو على التكتونيات العسكرية الاستراتيجية في شمال شرق أوروبا. سيصبح بحر البلطيق بحكم الواقع البحر الداخلي للحلف. كما ستتحمل فنلندا والسويد من الآن فصاعداً المسؤولية الرئيسة عن دفاع البلطيق (المشترك). وفي المستقبل، يمكن مراقبة المجال الجوي الإستوني والدفاع عنه من فنلندا. علاوة على ذلك، يخلق التوسع الشمالي العمق الاستراتيجي المطلوب لاستعادة الأراضي المحتلة. وتملأ الدولتان فجوة “النقطة العمياء” – في التخطيط الدفاعي لحلف الناتو لأراضيه الشرقية. كما أن هذا يزيد بصورة كبيرة من الخيارات المتاحة لحلف الناتو من أجل الإسقاط السريع للقوة في شمال شرق أوروبا. يمكن الآن حماية خطوط الإمداد بصورة أسرع وأكثر موثوقية من خلال الطرق الجوية والبحرية عبر السويد. وتسهل جزيرة جوتلاند السويدية أيضاً السيطرة على المجال الجوي والأنشطة البحرية في بحر البلطيق. لقد أحدثت سياسة بوتين التوسعية العدوانية بالضبط عكس ما كان يقصده أصلاً.

ومن الناحية المثالية، سيكفي هذا الظرف وحده لإبعاد روسيا عن الاستفزازات في المنطقة. لكن عموماً، تم وضع موسكو أيضاً في موقف دفاعي نظراً الى التطورات في منطقة البلطيق. بادئ ذي بدء، حرم انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي روسيا من إمكان الاستيلاء المفاجئ على أرض البلطيق من خلال انقلاب سريع والاحتلال (المؤقت) لغوتلاند من الجانب البحري. ثانياً، سيشكل معزل كالينينغراد الروسي مصدر إزعاج أكبر لموسكو. وثالثاً، سيؤدي انضمام فنلندا إلى الناتو الى وضع مدينة سان بطرسبرغ في طليعة التخطيط العسكري. على الرغم من عدم وجود سيناريو صراع يمكن تصوره يتحرك فيه الناتو ضد المدينة بصورة مباشرة، من الممكن على الأقل فرض حصار على خليج فنلندا لمراقبة السفن القادمة.

وعموماً، أتت سياسة التوسع لفلاديمير بوتين بنتائج عكسية. وأضاف انضمام فنلندا حوالي 1300 كيلومتر إلى حدود روسيا مع التحالف الدفاعي عبر الأطلسي، أي أكثر من ضعف الحدود الحالية. كما وضع الوضع الأمني ​​المتدهور بصورة كبيرة حتى البلدان التي لديها عقود من تقاليد عدم الانحياز في إطار عضوية محتملة في الناتو. وفقد الحياد العسكري قيمته كضمان لاستقرار العلاقات مع موسكو. وبالنتيجة، تحول ميزان القوى العسكري في منطقة البلطيق لصالح الناتو.

انفتاح الدنمارك

وتشمل النسخة الاسكندنافية من تسايتنويندي، إلى جانب توسع الناتو شمالاً، انفتاح الدنمارك على التعاون في إطار سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي. وتتشكل في كوبنهاغن وستوكهولم وهلسنكي على وجه الخصوص، الخطوط الأولى لنظام أمني أوروبي جديد، على وجه التحديد، بحيث شكل التوقيع على الوثيقة الختامية لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (هلسنكي) في عام 1975 علامة فارقة على الطريق نحو سلام تعاوني وغير قابل للتجزئة، العمارة الأمنية للقارة.

وفي تطور تاريخي مأساوي، تجد أوروبا نفسها مجبرة على تنظيم الأمن في أوروبا ضد روسيا والامبريالية الجديدة. ونتيجة للحرب في أوكرانيا، تواجه أوروبا مجدداً انقساماً إلى كتلتين. من ناحية، هناك فنلندا والسويد ومولدوفا وجورجيا، مع الرغبة بمشاركة أوثق في هياكل (التحالف) الغربية. ومن ناحية أخرى، تقف بيلاروسيا، التي أصبحت دولة تابعة لروسيا منذ اندلاع الحرب.

أخيراً، من منظور تاريخي، من المرجح أن يثبت انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو فوزاً للنموذج الليبرالي في صراع الديموقراطيات الغربية مع خصومها الاستبداديين لوضع حجر الأساس للنظام الدولي المستقبلي. لكن النهاية الكاملة لمسار الحياد في أوروبا تطلق ناقوس الخطر حول الوضع في القارة العجوز”.

شارك المقال