سيناريو جهنمي لتعطيل الاستحقاقات الدستورية!

جورج حايك
جورج حايك

تتساقط الاستحقاقات الدستورية واحدة تلو الأخرى على نحو دراماتيكي: انتخابات رئاسة الجمهورية، الانتخابات البلدية وتعيينات وظائف الفئة الأولى والتعيينات القضائية… ويبدو أن هذا التعطيل للمؤسسات ممنهج وهادف، والمسؤول عنه منظومة سياسية يقودها “حزب الله” ومعه حلفاء مثل حركة “أمل” و”التيار الوطني الحر” بحسب مصالحه.

وما يحدث عند كل استحقاق انتخابي، بدل الحديث عن البرامج الانتخابية، وتداول أسماء المرشحين، واعلان الترشيحات، يبدأ الحديث عن التأجيل والمعوقات، والموانع والصعوبات والضغوط… وكأن التأجيل أو الإلغاء أو التمديد هو الأساس وليس العكس!

نعيش هذا النهج السياسي منذ العام 2006، لكنه وسيلة لتنفيذ سيناريو يضمن هيمنة “حزب الله” على مؤسسات الدولة، عبر السماح باجراء الاستحقاقات على الطريقة التي سبق أن أعلنها نائب “حزب الله” السابق نواف الموسوي في البرلمان النيابي وعلى شاشات التلفزيون، بأن تعطيل الانتخابات الرئاسية لمدة عامين ونصف العام، كان يهدف الى أن تستطيع بندقية المقاومة الوصول بالجنرال ميشال عون الى قصر بعبدا بتسوية شكلية.

هذا الأسلوب التعطيلي يستخدم، لأن الدستور اللبناني لا يتضمن بنوداً كتلك التي يتضمنها الدستور الايراني في موضوع وصاية الولي الفقيه، فهناك يطبّق “الفقيه” ديموقراطيته الخاصة، فهو الحاكم بين الناس على أساس ميزان “معكوف” يُساوي بين الضرير والبصير فيحكم بالاعدام على أطفال ونساء وشيوخ أبرياء، وفي الوقت عينه يمنح الرتب والمراكز العالية في الدولة للأشخاص الأكثر ارتكاباً للجرائم بحق الشعوب الفقيرة المسالمة، لمجرّد أنهم ينتمون إلى “الحرس الثوري الايراني” المدعوم من أعلى الهيئات والمراكز الدينية في النظام أي “ولاية الفقيه”. ومن هنا يستلهم “الحزب” ديموقراطيته ويضطر إلى ممارسة التعطيل الذي يؤدي إلى فوضى دستورية وشلّ البلد، فتستسلم القوى السياسية كونها “أم الصبي”. والمفارقة أن الدستور يستبدل دائماً بفتاوى للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله الذي يقدّم لنا رؤيته للحل عند كل استحقاق وبعد كل تعطيل، والتي سرعان ما يتوافق عليها جمهور السياسيين العطشى للتسويات والمواقع والمناصب والمكاسب والمغانم، فتسير الأمور بالشكل، كما يريد “الحزب” وأمينه العام، ولكن النتيجة باستمرار مخيّبة بحيث يتراجع الوضع الداخلي اللبناني الى الأسوأ، ويتخبط لبنان بانهيار اقتصادي ومالي وتتراجع علاقات لبنان بالخارج وخصوصاً مع محيطه العربي.

لا شك في أن قوى سيادية ومرجعيات روحية مثل بكركي نبّهت على هذا الأداء التعطيلي الذي تشهده المؤسسات الدستورية، وهو ليس بريئاً حتماً، بل يخفي في طياته على ما يبدو، ما هو “أخطر” و”أكبر”.

ولا تريد هذه القوى السيادية والبطريركية المارونية سوى تطبيق بنود الدستور من دون التلاعب بها والتحايل عليها، لأن عدم احترام الدستور، وهو في أساس العقد الاجتماعي، يؤدّي إلى شلل مؤسّسات الدولة وتغليب مصلحة “الأحزاب – الطوائف” على المصلحة العامة. وتعطيل المؤسّسات الدستوريّة وتدجينها يعرقلان تكوين السلطة ويجعلان من الاستحقاقات الدستوريّة أزمات وجوديّة بدلاً من أنْ تكون فرصاً لممارسة الديموقراطيّة من أجل تداول سلس للسلطة. فديموقراطية “حزب الله” وحلفائه تشلّ الدولة وتصب في مصلحة مشروعه المذهبي الفئوي الخطير.

آخر محاولات ضرب الاستحقاقات الدستورية تتمثّل اليوم بالانتخابات البلدية والاختيارية والاستعاضة عنها بالتمديد سنة على الأرجح للمجالس المحلية القائمة، اذ أن “حزب الله” وحركة “أمل” و”التيار الوطني” على الرغم من اختلافهم حول بعض المواضيع الثانوية توحدوا للتمديد للمجالس البلدية والاختيارية في جلسة تشريعية لمجلس النواب سيؤمن “ميثاقيتها” المطلوبة وأكثريتها الدستورية “التيار”، هكذا ارتسمت معالم اكتمال الفراغ “من فوق ومن تحت”، أي من شغور رأس الهرم الدستوري في رئاسة الجمهورية، الى الأرضية الأساسية والمدماك التحتي للسلطات المحلية باعتبار أن التمديد للمجالس البلدية سيأتي على واقع بالغ السلبية والقتامة لهذه المجالس التي تعاني، الى الاهتراء والتقادم والتفكك، كماً هائلاً من المشكلات والأزمات الادارية والمالية والتنظيمية ناهيك عن انحلال عشرات المجالس بما يعني أن التمديد لها سيكون أقرب ما يكون الى تمديد لفراغ واقعي يراد له أن يتمادى بقوة تعطيل الاستحقاقات الدستورية تباعاً.

وهذا التعطيل المدوي لاستحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية يبدو أن سببه استشعار “حزب الله” وحلفائه عجزهم عن تحقيق النتائج المرجوة. في المقابل، من المتوقع أن يُقابل هذا التمديد بطعن في المجلس الدستوري يتقدّم به نواب “القوات اللبنانية” و”الكتائب” وبعض الشخصيات السيادية والتغييرية.

هذه القوى السيادية لا تزال تؤمن بانتظام عمل الدولة ومؤسساتها واستقرار المجتمع، لأنه من غير المسموح ولا المقبول الاستمرار في هذه المراوحة، فيما هناك قناعة مفادها بأنّ هذه القدرة غير متوافرة في ظلّ المنظومة المتحكِّمة، كما أنّ هناك قناعة بأنّ تعطيل مسارات الدولة سيبقى سيِّد الموقف ومن المتعذِّر فعل أي شيء يذكر سوى في حال أعادت إيران النظر بدورها في المنطقة ترجمة للاتفاق السعودي – الايراني، الأمر الذي لا يبدو سهل التحقُّقِ في المدى المنظور.

فهل هناك عاقل في لبنان لا يعرف أن الثنائي الشيعي عند كل مناسبة أو فرصة متاحة يسعى الى استخدام سلاح “كربجة” كلّ شيء؟ هو يستخدم هذا الأسلوب منذ سنوات: يعطّل الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومات، لا يؤمّن النصاب القانوني لجلسات مجلس النواب أو الوزراء عند طرح أي استحقاق يرى أنه لا يناسب مصالحه. اذا لم يعجبه قرار ما أو قاضٍ ما، ينسحب من الجلسات، يلوّح بورقة الميثاقية الخ الخ، وسائل عدة لها نتيجة واحدة: التعطيل!

لكن المواطنين اللبنانيين لم يعد بمقدورهم تحمّل المزيد، فالعملة الوطنية ضربت في الصميم حتى فقدت 95 في المئة من قيمتها وتقارب الاندثار الكامل. كذلك شلّت كل القطاعات الحيوية الصحة، الدواء، الغذاء، الكهرباء، الوقود واللائحة تطول… استهداف ممنهج لسلب اللبنانيين أبسط أسباب العيش الكريم.

أمام هذا الواقع لا يجوز التضليل، لأن هدف هذا السيناريو التعطيلي من الثنائي الشيعي هو ضرب وحدة لبنان وتفكيك الدولة والتمرد عليها وقلب الحقائق وقطع علاقاتها مع أشقائها والقاء التهم باطلاً على الذين لا يزالون في كنف الدولة والشرعية.

وعلى الرغم من دقّة الوضع وصعوبة قلب الطاولة وضرورة المواجهة ضمن الضوابط الموجودة لمنع المنظومة من استخدام الدولة لتصفية حساباتها السياسية، إلا أنّ الفكرة الأساسية التي يجب عدم وضعها على الرفّ في غمرة التطورات واليوميّات السياسيّة هي أن المطلوب أولاً وأخيراً الوصول إلى دولة فعلية تؤمِّن للناس متطلباتها بحياة هنيئة ومستقرة، الأمر الذي يستحيل تحقيقه في ظل التركيبة القائمة. ويبدو أن لا قيامة للبنان التاريخ والحضارة والثقافة والتنوع والتعددية والشراكة والرسالة إن لم تحصل تعديلات تحت قبة النظام الحالي تمنع “حزب الله” من ممارسة التعطيل ومصادرة قرار الدولة.

شارك المقال